الفصل الثالث

البحث عن مصدر القرآن

اقرأ المزيد

بيان أن القرآن لا يمكن أن يكون إيحاء ذاتيا من نفس محمد -صلى الله عليه وسلم:

الأمر أمامنا أوضح من أن يحتاج إلى سماع هذا الاعتراف القولي منه صلى الله عليه وسلم، أو يتوقف على دراسة تلك الناحية الخلقية من تاريخه. أليس يكفي للحكم ببراءة الإنسان من عمل من الأعمال أن يقوم من طبيعته شاهد بعجزه المادي عن إنتاج ذلك العمل؟

فلينظر العاقل: هل كان هذا النبي الأمي -صلوات الله عليه- أهلا بمقتضى وسائله العلمية لأن تجيش نفسه بتلك المعاني القرآنية؟

سيقول الجهلاء من الملحدين: نعم؛ فقد كان له من ذكائه الفطري وبصيرته النافذة ما يؤهله لإدراك الحق والباطل من الآراء، والحسن والقبيح من الأخلاق، والخير والشر من الأفعال، حتى لو أن شيئا في السماء تناله الفراسة أو تلهمه الفطرة أو توحي به الفكرة لتناوله محمد بفطرته السليمة وعقله الكامل وتأملاته الصادقة.

ونحن قد نؤمن بأكثر مما وصفوا من شمائله، ولكننا نسأل: هل كل ما في القرآن مما يستنبطه العقل والتفكير، ومما يدركه الوجدان والشعور؟

اللهم كلا، ففي القرآن جانب كبير من المعاني النقلية البحتة التي لا مجال فيه للذكاء والاستنباط، ولا سبيل إلى علمها لمن غاب عنها إلا بالدراسة والتلقي والتعلم.

ماذا يقولون فيما قصه علينا القرآن من أنباء ما قد سبق، وما فصله من تلك الأنباء على وجهه الصحيح كما وقع؟ أيقولون: إن التاريخ يمكن وضعه أيضا بإعمال الفكر ودقة الفراسة؟

أم يخرجون إلى المكابرة العظمى فيقولون: إن محمدا قد عاصر تلك الأمم الخالية، وتنقل فيها قرنا، فشهد هذه الوقائع مع أهلها شهادة عيان، أو أنه ورث كتب الأولين وعكف على دراستها حتى أصبح من الراسخين في علم دقائقها؟! إنهم لا يسعهم أن يقولوا هذا ولا ذاك؛ لأنهم معترفون مع العالم كله بأنه عليه السلام لم يكن من أولئك ولا من هؤلاء (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) آل عمران: ٤٤ (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) يوسف: ١٠٢ (وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى الْأَمْرَ) القصص: ٤٤ (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) العنكبوت: ٤٨ (تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ۖ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا) هود: ٤٩ (حْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) القصص: ٣

لا نقول: إن العلم بأسماء بعض الأنبياء والأمم الماضية وبمجمل ما جرى من حوادث التدمير في ديار عاد وثمود وطوفان نوح وأشباه ذلك لم يصل قط إلى الأميين؛ فإن هذه النتف اليسيرة قلما تعزب عن أحد من أهل البدو أو الحضر؛

لأنها مما توارثته الأجيال وسارت به الأمثال، وإنما الشأن في تلك التفاصيل الدقيقة والكنوز المدفونة في بطون الكتب، فذلك هو العلم النفيس الذي لم تنله يد الأميين، ولم يكن يعرفه إلا القليل من الدراسين، وإنك لتجد الصحيح المفيد من هذه الأخبار محررا في القرآن.

حتى الأرقام..

طبق الأرقام: فترى مثلا في قصة نوح -عليه السلام- في القرآن أنه لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما. وفي سفر التكوين من التوراة أنه عاش تسعمائة وخمسين سنة. وترى في قصة أصحاب الكهف عند أهل الكتاب أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة شمسية.

وفي القرآن أنهم لبثوا في كهفهم "ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا" وهذا السنون التسع هي فرق مابين عدد السنين الشمسية والقمرية. قاله الزجاج يعني بتكميل الكسر. فانظر إلى هذا الحساب الدقيق في أمة أمية لا تكتب ولا تحسب.

كفاك بالعلم في الأمي معجزة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم

نعم؛ إنها لعجيبة حقا: رجل أمي بين أظهر قوم أميين، يحضر مشاهدهم -في غير الباطل والفجور- ويعيش معيشتهم مشغولا برزق نفسه وزوجه وأولاده، راعيا بالأجر، أو تاجرا بالأجر، لا صلة له بالعلم والعلماء؛

يقضي في هذا المستوى أكثر من أربعين سنة من عمره، ثم يطلع علينا فيما بين عشية وضحاها فيكلمنا بما لا عهد له به في سالف حياته ...

وربما لم يتحدث إلى أحد بحرف واحد منه قبل ذلك، ويبدي لنا من أخبار تلك القرون الأولى مما أخفاه أهل العلم في دفاترهم وقماطرهم1.

أفي مثل هذا يقول الجاهلون: إنه استوحى عقله واستلهم ضميره؟ ؟ أي منطق يسوغ أن يكون هذا الطور الجديد العلمي نتيجة طبيعية لتلك الحياة الماضية الأمية؟ إنه لا مناص في قضية العقل من أن يكون لهذا الانتقال الطفري سر آخر يلتمس خارجا عن حدود النفس وعن دائرة المعلومات القديمة.

وإن ملاحدة الجاهلية وهم أجلاف الأعراب في البادية كانوا في الجملة أصدق تعليلا لهذه الظاهرة وأقرب فهما لهذا السر من ملاحدة هذا العصر،

إذ لم يقولوا كما قال هؤلاء: إنه استقى هذه الأخبار من وحي نفسه، بل قالوا: إنه لا بد أن تكون قد أمليت عليه منذ يومئذ علوم جديدة، فدرس منها ما لم يكن قد درس، وتعلم ما لم يكن يعلم (وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) الأنعام: ١٠٥ (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلً) الفرقان: ٥ (وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) الأنعام: ١٠٥

ولقد صدقوا؛ فإنه درسها، ولكن على أستاذه الروح الأمين، واكتتبها، ولكن من صحف مكرمة مرفوعة مطهرة، بأيدي سفرة، كرام بررة (قُل لَّوْ شَاءَ اللَّـهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ ۖ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) يونس: ١٦

ذلك شأن ما في القرآن من الأنباء التاريخية، لا جدال في أن سبيلها النقل لا العقل، وأنها تجيء من خارج النفس لا من داخلها. فأما سائر العلوم القرآنية فقد يقال: إنها من نوع ما يدرك بالعقل، فيمكن أن ينالها الذكي بالفراسة أو بالروية، وهذا كلام قد يلوح حقا في بادئ الرأي، ولكنه لا يلبث أن ينهار أمام الاختبار.


1 القماطر: جمع مفرده: القمطر، وهو ما تصان به الكتب.

ذلك أن العقول البشرية لها في إدراك الأشياء طريق معين تسلكه، وحد محدود تقف عنده ولا تتجاوزه. فكل شيء لم يقع تحت الحس الظاهر أو الباطن مباشرة، ولم يكن مركوزا في غريزة النفس...

إنما يكون إدراك العقول إياه عن طريق مقدمات معلومة توصل إلى ذلك المجهول، إما بسرعة كما في الحدس, وإما ببطء كما في الاستدلال والاستنباط والمقايسة.

وكل ما لم تمهد له هذه الوسائل والمقدمات لا يمكن أن تناله يد العقل بحال، وإنما سبيله الإلهام، أو النقل عمن جاءه ذلك الإلهام.

فهل ما في القرآن من المعاني غير التاريخية كانت حاضرة الوسائل والمقدمات في نظر العقل؟

ذلك ما سيأتيك نبؤه بعد حين، ولكننا نعجل لك الآن بمثالين من تلك المعاني نكتفي بذكرهما هنا عن إعادتهما بعد:

"أحدهما" قسم العقائد الدينية.

"والثاني" قسم النبوءات الغيبية.

الحقائق الدينية الغيبية لا سبيل للعقل إليها:

فأما أمر الدين فإن غاية ما يجتنبه العقل من ثمرات بحثه المستقل فيه، بعد معاونة الفطر السليمة له، هو أن يعلم أن فوق هذا العالم إلها قاهرا دبره، وأنه لم يخلقه باطلا، بل وضعه على مقتضى الحكمة والعدالة،

فلا بد أن يعيده كرة أخرى؛ لينال كل عامل جزاء عمله؛ إن خيرا وإن شرا. هذا هو كل ما يناله العقل الكامل من أمر الدين،

ولكن القرآن لا يقف في جانبه عند هذه المرحلة، بل نراه يشرح لنا حدود الإيمان مفصلة، ويصف لنا بدء الخلق ونهايته، ويصف الجنة وأنواع نعيمها، والنار وألوان عذابها، كأنهما رأي عين،

حتى إنه ليحصي عدة الأبواب، وعدة الملائكة الموكلة بتلك الأبواب، فعلى أية نظرية عقلية بنيت هذه المعلومات الحسابية، وتلك الأوصاف التحديدية؟

إن ذلك ما لا يوحي به العقل بتة، بل هو إما باطل فيكون من وحي الخيال والتخمين، وإما حق فلا ينال إلا بالتعليم والتلقين، لكنه الحق الذي شهدت به الكتب واستيقنه أهلها (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً ۙ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا) المدثر: ٣١ (وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ) الشورى: ٥٢ (مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَىٰ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) ص: ٦٩ (وَمَا كَانَ هَـٰذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللَّـهِ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ) يونس: ٣٧

أنباء المستقبل لا سبيل فيها لليقين إلا بالوحي الصادق:

أما النبوءات الغيبية فهل تعرف كيف يحكم فيها ذو العقل الكامل؟

إنه يتخذ من تجاربه الماضية مصباحا يكشف على ضوئه بضع خطوات من مجرى الحوادث المقبلة، جاعلا الشاهد من هذه مقياسا للغائب من تلك، ثم يصدر فيها حكمه محاطا بكل تحفظ وحذر، قائلا:

"ذلك ما تقضي به طبيعة الحوادث لو سارت الأمور على طبيعتها ولم يقع ما ليس في الحسبان".

أما أن بيت الحكم بتا ويحدده تحديدا حتى فيما لا تدل عليه مقدمة من المقدمات العلمية، ولا تلوح منه أمارة من الأمارات الظنية العادية، فذلك ما لا يفعله إلا أحد رجلين:

إما رجل مجازف لا يبالي أن يقول الناس فيه: صدق أو كذب، وذلك هو دأب جهلاء المتنبئين من العرافين والمنجمين...

وإما رجل اتخذ عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده، وتلك هي سنة الأنبياء والمرسلين، ولا ثالث لهما إلا رجلا روى أخباره عن واحد منهما.

فأي الرجلين تراه في صاحب هذا القرآن حينما يجيء على لسانه الخير الجازم بما سيقع بعد عام وما سيقع في أعوام، وما سيكون أبد الدهر، وما لن يكون أبد الدهر؟

لك وهو لم يتعاط علم المعرفة والتنجيم، ولا كانت أخلاقه كأخلاقهم تمثل الدعوى والتقحم، ولا كانت أخباره كأخبارهم خليطا من الصدق والكذب، والصواب والخطأ،

بل كان مع براءته من علم الغيب وقعوده عن طلبه وتكلفه، يجيئه عفوا ما تعجز صروف الدهر وتلقلباته في الأحقاب المتطاولة أن تنقض حرفا واحدا مما ينبئ به (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ﴿٤١﴾ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴿٤٢﴾) فصلت: ٤١ - ٤٢

أمثلة من النبوءات القرآنية:

لنسرد لك ها هنا بعض النبوءات القرآنية مع بيان شيء من ملابساتها التاريخية؛ لترى هل كانت مقدماتها القريبة أو البعيدة حاضرة فتكون تلك النبوءات من جنس ما توحي به الفراسة والألمعية؟

وسنحصر الكلام في ثلاثة أنواع:

1- ما يتعلق بمستقبل الإسلام وكتابه ورسوله.

2- ما يتصل بمستقبل المؤمنين.

3- ما يتصل بمستقبل المعاندين.

1- فيما يتصل بمستقبل الإسلام:

مثال هذا ما جاء في بيان أن هذا الدين قد كتب الله له البقاء والخلود، وأن هذا القرآن قد ضمن الله حفظه وصيانته

{كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّـهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} الرعد : 17

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ﴿٢٤﴾ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّـهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴿٢٥﴾} ابراهيم: ٢٤

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر : 9


أتعلم متى وأين صدرت هذه البشارات المؤكدة، بل العهود الوثيقة؟إنها آيات مكية من سور مكية.

وأنت قد تعرف ما أمر الدعوة المحمدية في مكة؟. عشر سنوات كلها إعراض من قومه عن الاستماع لقرآنه، وصد لغيرهم عن الإصغاء له، واضطهاد وتعذيب لتلك الفئة القليلة التي آمنت به، ثم مقاطعة له ولعشيرته ومحاصرتهم مدة غير يسيرة في شعب من شعاب مكة، ثم مؤامرات سرية أو علنية على قتله أو نفيه.

فهل للمرء أن يلمح في ثنايا هذا الليل الحالك الذي طوله عشرة أعوام، شعاعا ولو ضئيلا من الرجاء أن يتنفس صبحه عن الإذن لهؤلاء المظلومين برفع صوتهم وإعلان دعوتهم؟

ولو شام المصلح تلك البارقة من الأمل في جوانب نفسه من طبيعة دعوته، لا في أفق الحوادث، فهل يتفق له في مثل هذه الظروف أن يربو في نفسه الأمل حتى يصير حكما قاطعا؟

وهبه امتلأ رجاء بظهور دعوته في حياته ما دام يتعهدها بنفسه، فمن يتكفل له بعد موته ببقاء هذه الدعوة وحمايتها وسط أمواج المستقبل العاتية؟

وكيف يجيئه اليقين في ذلك وهو يعلم من عبر الزمان ما يفت في عضد هذا اليقين؟ فكم من مصلح صرخ بصيحات الإصلاح فما لبثت أصواته أن ذهبت أدراج الرياح. وكم من مدينة قامت في التاريخ ثم عفت ودرست آثارها. وكم من نبي قتل. وكم من كتاب فقد أو انتقص أو بدل.

وهل كان محمد -صلى الله عليه وسلم- ممن تستخفه الآمال فيجري مع الخيال؟ إنه ما كان قبل نبوته يطمع في أن يكون نبيا يوحي إليه

{وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} القصص : 86

ولا كان بعد نبوته يضمن لنفسه أن يبقى هذا الوحي محفوظا لديه

{ئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا ﴿٨٦﴾ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} الإسراء : 86

فلا بد إذا من كفيل بهذا الحفظ من خارج نفسه. ومن ذا الذي يملك هذا الضمان على الدهر المنقلب المملوء بالمفاجآت؟ إلا رب الدهر الذي بيده زمام الحوادث كلها، والذي قدر مبدأها ومنتهاها، وأحاط علما بمجراها ومرساها.

فلولا فضل الله ورحمته الموعود بهما في الآية الآنفة لما استطاع القرآن أن يقاوم تلك الحروب العنيفة التي أقيمت ولا تزال تقام عليه بين آن وآن.

سل التاريخ: كم مرة تنكر الدهر لدول الإسلام، وتسلط الفجار على المسلمين فأثخنوا فيهم القتل، وأكرهوا أمما منهم على الكفر، وأحرقوا الكتب، وهدموا المساجد،

وصنعوا ما كان يكفي القليل منه لضياع هذا القرآن؛ كلا أو بعضا؛ كما فعل بالكتب قبله؛ لولا أن يد العناية تحرسه فبقي في وسط هذه المعامع رافعا راياته، وأعلامه.

حافظا آياته وأحكامه، بل اسأل صحف الأخبار اليومية: كم من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة تنفق في كل عام لمحو هذا القرآن وصد الناس عن الإسلام بالتضليل والبهتان والخداع والإغراء، ثم لا يظفر أهلها من وراء ذلك إلا بما قال الله تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّـهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} الأنفال : 36

ذلك بأن الذي يمسكه أن يزول هو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا.

ذلك بأن الله

{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} التوبة : 33

والله بالغ أمره، ومتم نوره، فظهر وسيبقى ظاهرا لا يضره من خالفه حتى يأتي أمر الله.

"ومثال آخر" ما جاء في التحدي بهذا القرآن وتعجيز العالم كله عن الإتيان بمثله

{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} الإسراء : 88

{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا } البقرة : 24

فانظر هذا النفي المؤكد، بل الحكم المؤبد!

هل يستطيع عربي يدري ما يقول أن يصدر هذا الحكم وهو يعلم أن مجال المساجلات بين العرب مفتوح على مصراعيه،

وأن الناقد المتأخر متى أعمل الروية في تعقب قول القائل المتقدم لا يعييه أن يجد فيه فائتا ليستدرك؛ أو ناقصا ليكمل، أو كلاما ليزدد كمالا؟

ألم يكن يخشى بهذا التحدي أن يثير حميتهم الأدبية فيهبوا لمنافسته وهم جميع حذرون؟ وماذا عساه يصنع لو أن جماعة من بلغائهم تعاقدوا على أن يضع أحدهم صيغة المعارضة، ثم يتناولها سائرهم بالإصلاح والتهذيب كما كانوا يصنعون في نقد الشعر، فيكمل ثانيهم ما نقصه أولهم،

وهكذا، حتى يخرجوا كلاما إن لم يبزه فلا أقل من أن يساميه ولو في بعض نواحيه؟ ثم لو طوعت له نفسه أن يصدر هذا الحكم على أهل عصره فكيف يصدره على الأجيال القادمة إلى يوم القيامة، بل على الإنس والجن؟

إن هذه مغامرة لا يتقدم إليها رجل يعرف قدر نفسه إلا وهو مالئ يديه من تصاريف القضاء،

وخبر السماء، وهكذا رماها بين أظهر العالم، فكانت هي القضاء المبرم سلط على العقول والأفواه، فلم يهم بمعارضته إلا باء بالعجز الواضح، والفشل الفاضح، على مر العصور والدهور.

ومثال ثالث" تلك الآية التي يضمن الله بها لنبيه حماية شخصه والأمن على حياته حتى يبلغ رسالات ربه:

{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } المائدة : 67

إن هذا وايم الله -ضمان لايملكه بشر، ولو كان ملكا محجبا تسير الحفظة من بين يديه ومن خلفه.

فكم رأينا ورأى الناس من الملوك والعظماء من اختطفتهم يد الغيلة وهم في مواكبهم تحيط بهم الجنود والأعوان.

ولكن انظر مبلغ ثقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بهذا الوعد الحق: روى الترمذي والحاكم عن عائشة، وروى الطبراني عن أبي سعيد الخدري قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحرس بالليل، فلما نزلت هذه الآية ترك الحرس وقال:

( انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله )

رواه الترمذي عن عائشة، ك/ تفسير القرآن، ب/ ومن سورة المائدة "2972".

وحقا لقد عصمه الله منهم في مواطن كثيرة كان خطر الموت فيها أقرب إليه من شراك نعله، ولم يكن له فيها عاصم إلا الله وحده.

من ذلك ما رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة، ورواه مسلم في صحيحه عن جابر قال: كنا إذا أتينا في سفرنا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما كنا بذات الرقاع نزل نبي الله تحت شجرة وعلق سيفه فيها.

فجاء رجل من المشركين فأخذ السيف فاخترطه وقال للنبي -صلى الله عليه وسلم: أتخافني؟ قال: "لا". قال: فمن يمنعك مني؟ قال: "الله يمنعني منك، ضع السيف" فوضعه

اخترط السيف: استله من غمده.

وحسبك أن تعلم أن هذا الأمن كان في الغزوة التي شرعت فيها صلاة الخوف.

ومن أعظم الوقائع تصديقا لهذا النبأ الحق ذلك الموقف المدهش الذي وقفه النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة حنين، منفردا بين الأعداء، وقد انكشف المسلمون وولوا مدبرين، فطفق هو يركض ببغلته إلى جهة العدو،

والعباس بن عبد المطلب آخذ بلجامها يكفها إرادة ألا تسرع، فأقبل المشركون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما غشوه لم يفر ولم ينكص،


رواه البخاري عن جابر بن عبد الله، ك/ المغازي، ب/ غزوة ذات الرقاع "3822"
ومسلم عن جابر بن عبد الله، ك/ صلاة المسافرين وقصرها، ب/ صلاة الخوف "1391"

بل نزل عن بغلته كنما يمكنهم من نفسه، وجعل يقول: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" 1 كأنما يتحداهم ويدلهم على مكانه، فو الله ما نالوا نيلا، بل أيده الله بجنده، وكف عنه أيديهم بيده.

رواة الشيخان عن البراء ابن عازب ورواه مسلم عن العباس وسلمة بن الأكوع ورواه أحمد وأصحاب السنن عن غيرهم أيضا.

وهكذا أمتع الله به أمته فلم يقبضه إليه حتى بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وحتى أنزل عليه قوله:

{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} المائدة : 3

2- فيما يتصل بمستقبل المؤمنين:

"وإليك مثالا من النوع الثاني". كان القرآن في مكة يقص على المسلمين من أنباء الرسل ما يثبت فؤادهم، ويعدهم الأمن والنصر الذي كان لمن قبلهم

{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ﴿١٧١﴾ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ﴿١٧٢﴾ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} الصافات : 171

{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} غافر : 51

فلما هاجروا إلى المدينة فرارا بدينهم من الفتن ظنوا أنهم قد وجدوا مأمنهم في مهاجرهم، ولكنهم ما لبثوا أن هاجمتهم الحروب المسلحة من كل جانب، فانتقلوا من خوف إلى خوف أشد.

وأصبحت كل أمنيتهم أن يجيء يوم يضعون فيه أسلحتهم، وفي هذه الأوقات العصيبة ينبئهم القرآن بما سيكون لهم من الخلافة والملك، علاوة على الأمن والاطمئنان، فما هذا؟ أأحلام وأماني؟ لا، بل وعد مؤكد بالقسم:

رواه البخاري عن البراء بن عازب، ك/ الجهاد والسير، ب/ من قاد دابة غيره في الحرب، ومسلم عن البراء، ك/ الجهاد والسير، ب/ في غزوة حنين "2653"، ورواه مسلم -أيضا- عن العباس وسلمة بن الأكوع، ورواه أحمد وأصحاب السنن عن غيرهم.

{ وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} النور : 55

روى الحاكم وصححه عن أبي بن كعب قال: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة. وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: أترون أنا نعيش نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله؟ فنزلت الآية. وروى ابن أبي حاتم عن البراء قال: نزلت هذه الآية ونحن في خوف شديد.

فانظر كيف جاء تأويلها على أوسع معانيها في عصر الصحابة أنفسهم الذين وقع لهم خطاب المشافهة في قوله: {منكم} فبدلوا من بعد خوفهم أمنا لا خوف فيه، واستخلفوا في أقطار الأرض فورثوا مشارقها ومغاربها. وتأمل قوله في هذه الآية {وعملوا الصالحات} وقوله في الآية الآخرى

{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّـهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّـهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴿٤٠﴾ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ} الحج : 40

تجد فيها نبأ آخر عن سر ما يبتلى به المؤمنون أحيانا من انتقاص أرضهم وتسلط أعدائهم عليهم

{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ} آل عمران : 165

{ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ} الأنفال : 51

"وإليك مثالا آخر": منع المسلمون من دخول مكة عام الحديبية، واشترطت عليهم قريش إذا جاءوا في العام المقبل أن يدخلوها عزلا من كل سلاح إلا السيوف في القرب، فهل كان لهم أن يثقوا بوفاء المشركين بعقدهم وقد بلوا منهم نكث العهود وقطع الأرحام وانتهاك شعائر الله؟

أليسوا اليوم يحبسون هديهم أن يبلغ محله؟ فماذا هم صانعون غدا؟ على أنهم لو صدقوا في تمكين المسلمين من الدخول فكيف يأمن المسلمون جانبهم إذا دخلوا عليهم دارهم مجردين من دروعهم وقوتهم، ألا تكون هذه مكيدة يراد منها استدراجهم إلى الفخ؟

وآية ذلك اشتراط تجردهم من السلاح إلا السيف في القراب، وهو سلاح قد يطمئن به المسلمون إلى أنهم لن ينالوهم بأيديهم ورماحهم،

ولكنه لا يأمنون معه أن ينالوهم بسهامهم ونبالهم، في هذه الظروف المريبة يجيئهم الوعد الجازم بالأمور الثلاثة مجتمعة: الدخول، والأمن، وقضاء الشعيرة

{لَّقَدْ صَدَقَ اللَّـهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّـهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} الفتح : 27

فدخلوها في عمرة القضاء آمنين، ولبثوا فيها ثلاثة أيام حتى أتموا عمرتهم وقضوا مناسكهم.. الحديث أخرجه الشيخان

"ومثالا ثالثا": كان المشركون يجادلون المسلمين في مكة قبل الهجرة، يقولون لهم: إن الروم يشهدون أنهم أهل كتاب، وقد غلبتهم المجوس، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبوننا بالكتاب الذي أنزل عليكم،


البخاري عن المسور بن مخرمة ومروان، ك/ الشروط، ب/ الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب "2529".

{الم ﴿١﴾ غُلِبَتِ الرُّومُ ﴿٢﴾ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴿٣﴾ فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ} الروم : 3

لقد كان الإخبار بهذا النصر وبأنه كائن في وقت معين إخبارا بأمرين كل منهما خارج عن متناول الظنون، ذلك أن دولة الروم كانت قد بلغت من الضعف حدا يكفي من دلائله أنها غزيت في عقر دارها وهزمت في بلادها كما قال تعالى:

{في أدنى الأرض}

فلم يكن أحد يظن أنها تقوم لها بعد ذلك قائمة، فضلا عن أن يحدد الوقت الذي سيكون لها فيه النصر؛ ولذلك كذب به المشركون وتراهنوا على تكذيبه، على أن القرآن لم يكتف بهذين الوعدين، بل عززهما بثالث، حين يقول:

{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ﴿٤﴾ بِنَصْرِ اللَّـهِ} الروم : 4

إشارة إلى أن اليوم الذي يكون فيه النصر هناك للروم على الفرس سيقع فيه ها هنا نصر للمسلمين على المشركين،

وإذا كان كل واحد من النصرين في حد ذاته مستبعدا عند الناس أشد الاستبعاد فكيف الظن بوقوعهما مقترنين في يوم؟ لذلك أكده أعظم التأكيد بقوله:

{وَعْدَ اللَّـهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّـهُ وَعْدَهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} الروم : 6

ولقد صدق الله وعده، فتمت للروم الغلبة على الفرس، بإجماع المؤرخين في أقل من تسع سنين3. وكان يوم نصرها هو اليوم الذي وقع فيه النصر للمسلمين على المشركين في غزوة بدر الكبرى، كما رواه الترمذي عن أبي سعيد، ورواه الطبري عن ابن عباس وغيره.

رواه الترمذي عن أبي سعيد، ك/ تفسير القرآن، ب/ ومن سورة الروم "3116".

رب قائل يقول: هلا حدد القرآن عدد السنين بلفظ أصرح من لفظ البضع المتراوح بين الثلاث والتسع، أليس الله بأعلم بيوم النصر وساعته، بله سنته؟

فنقول: بلى، ولكن الناس في اصطلاحهم الحسابي لا يجرون على طريقة واحدة، فمنهم من يحسب الشمس، ومنهم من يحسب القمر، ومنهم من يكمل الكسور، ومنهم من يلغيها،

فكان مقتضى الحكمة التعبير باللفظ الصادق على كل تقدير ليكون أقطع لكل شبهة، وأبعد عن كل جدل ومكابرة، ثم إنه ربما تراخى الأمر بين بشائر النصر ووقائعه الفاصلة فيقع اختلاف الحسابين في تعيين الوقت الذي يضاف إليه النصر والغلبة. ولذا حسن التعبير بلفظ "في بضع" دون أن يقال: بعد بضع.

3- فيما يتصل بمستقبل المعاندين:

وهذه أمثلة من النوع الثالث: استعصى أهل مكة على النبي -صلى الله عليه وسلم- فدعا عليهم بسنين كسني يوسف، فانظر ما قاله القرآن في جواب هذا الدعاء:

{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ﴿١٠﴾ يَغْشَى النَّاسَ ۖ هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} الدخان : 11

فماذا جرى؟ أصابهم القحط حتى أكلوا العظام، وحتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد. رواه البخاري عن ابن مسعود. ثم انظر قوله بعد ذلك:

{إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا ۚ إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ﴿١٥﴾ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ} الدخان : 16

تر فيها ثلاث نبوءات أخرى: كشف البؤس عنهم، ثم عودتهم إلى مكرهم السيئ، ثم الانتقام منهم بعد ذلك، وقد كان ذلك كله كما بينه الحديث الصحيح المذكور، فإنهم لما جاءوا إلى رسول الله يستسقون وتضرعوا إلى الله:

{رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} الدخان : 12

سقاهم الله فأخصبوا، ولكنهم سرعان ما عادوا إلى عتوهم واستكبارهم، فبطش الله بهم البطشة الكبرى يوم بدر، حيث قتل من صناديدهم سبعون، وأسر سبعون.

فتارة يأتي محملا كما في قوله:

{وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّـهِ} الرعد : 31

{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّىٰ حِينٍ ﴿١٧٤﴾ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} الصافات : 174

وتارة يعين نوع العذاب بأنه الهزيمة الحربية كما في قوله:

{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} القمر : 45

{علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله} المزمل : 20

وهذا كما ترى من عجيب الأنباء في مكة، حيث لا مجال لأصل فكرة الحرب والتقاء الجموع، فضلا عن توقع فرارها وهزيمتها، حتى إن عمر -رضي الله عنه- لما نزلت هذه الآية جعل يقول: أي جمع هذا؟ قال: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولها. رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه، وعجزه في الصحيحين.

وتارة ينص على حوادث جزئية محددة منه -وهذا أعجب وأغرب- كما في قوله في شأن الرجل الزنيم1 الذي كان يقول في القرآن: إنه أساطير الأولين

{سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} القلم : 16

فأصيب بالسيف في أنفه يوم بدر. وكان ذلك علامة له يعير بها ما عاش. رواه الطبري وغيره عن ابن عباس. ونظير هذه الأنباء في كفار قريش ما ورد في كفار اليهود. انظر كيف يقول فيهم:

{لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ۖ وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ} آل عمران : 111

وقد فعل. ثم يقول:

{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّـهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} آل عمران : 112

ويقول:

{وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب} الأعراف : 167

فيا عجبا لهذه الآيات! هل كانت مؤلفة من حروف وكلمات؟ أم كانت أغلالا وضعت في أعناقهم إلى الأبد، وأصفادا شدت بها أيديهم فلا فكاك؟

ألا تراهم منذ صدرت عليهم هذه الأحكام أشتاتا في كل واد، أذلاء في كل ناد، لم تقم لهم في عصر من العصور دولة، ولم تجمعهم قط بلدة، وهم اليوم على الرغم من تضخم ثروتهم المالية إلى ما يقرب من نصف الثروة العالمية لا يزالون مشردين ممزقين عاجزين عن أن يقيموا لأنفسهم دويلة كأصغر الدويلات.

بل تراهم في بلاد الغرب المسيحية يسامون أنواع الخسف والنكال، ثم تكون عاقبتهم الجلاء عنها مطرودين، وبلاد الإسلام التي هي أرحب أرض الله صدرا، إنما تقبلهم رعية محكومين لا سادة حاكمين.

وهل أتاك آخر أنبائهم؟

قد زينت الآن لهم أحلامهم أن يتخذوا من "الأرض المقدسة" وطنا قوميا تأوي إليه جالياتهم من أقطار الأرض، حتى إذا ما تألف هنالك شعب ملتئم الشمل وطال عليهم الأمد فلم يزعجهم أحد، سعوا إلى رفع هذا العار التاريخي عنهم بإعادة ملكهم القديم في تلك البلاد.

وعلى برق هذا الأمل أخذ أفواج منهم يهاجرون إليها زرافات ووحدانا، وينزلون بها خفافا أو ثقالا.. فهل استطاعوا أن يتقدموا هذه الخطوة الأولى -أو لعلها الأولى والأخيرة- مستندين إلى قوتهم الذاتية؟ كلا، ولكن مستندين إلى "حبل من الناس!! " فماذا تقول؟

قل: صدق الله، ومن أصدق من الله حديثا، أما ظنهم الذي يظنون وهو أنهم بمزاحمتهم للسكان في أرضهم وديارهم يمهدون لما يحلمون به من مزاحمتهم بعد في ملكهم وسلطانهم، فذلك ما دونه خرط القتاد، يريدون أن يبدلوا كلام الله، ولا مبدل لكلماته

{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} النساء : 53

{وَاللَّـهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ} البروج : 20

فانظر إلى عجيب شأن النبوءات القرآنية كيف تقتحم حجب المستقبل قريبا وبعيدا، وتتحكم في طبيعة الحوادث توقيتا وتأييدا، وكيف يكون الدهر مصداقا لها فيما قل وكثر، وفيما قرب وبعد؟

بل انظر إلى جملة ما في القرآن من النواحي الإخبارية كيف يتناول بها محمد -صلى الله عليه وسلم- ما وراء حسه وعقله من أنباء ما كان وما سيكون وما هو كائن، وكيف أنه كلما حدثنا فيها عن الماضي صدقته شواهد التاريخ،

وكلما حدثنا عن المستقبل صدقته الليالي والأيام، وكلما حدثنا عن الله وملائكته وشئون غيبه صدقته الأنبياء والكتب. ثم اسأل نفسك بعد ذلك "أترين هذا الرجل الأمي جاء بهذا الحديث كله من عند نفسه؟ ".. تسمع منها جواب البديهة الذي لا تردد فيه "إنه لا بد أن يكون قد استقى هذه الأنباء من مصدر علمي وثيق، واعتمد فيها على اطلاع واسع ودرس دقيق.

ولا يمكن أن تكون تلك الأنباء كلها وليدة عقله وثمرة ذكائه وعبقريته" وإلا فأين هذا الذكي أو العبقري الذي أعطاه الدهر عهدا بأن يكون عاصما لظنونه كلها من الخطأ في كشف وقائع الماضي مهما قدم، وأنباء المستقبل مهما بعد؟

إن الأنبياء أنفسهم -وهم في الطبقة العليا من الذكاء والفطنة بشهادة الكافة- لم يظفروا من الدهر بهذا العهد في أقرب الحوادث إليهم، فقد كانوا فيما عدا تبليغ الوحي إذا اجتهدوا رأيهم فيما غاب عن مجلسهم أصابت فراستهم حينا وأخطأت حينا.

هذا يعقوب -عليه السلام- نراه يتهم بنيه حين جاءوا على قميصه بدم كذب، ثم يعود فيتهمهم حين قالوا له: إن ابنك سرق، فيقول لهم في كل مرة:

{بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} يوسف : 18و83

وقد أصاب في الأولى، ولكنه في الثانية اتهمهم وهم برآء. وهذا موسى -عليه السلام- نراه يقول للعبد الصالح

{سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّـهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} الكهف : 69

ثم ينسى فلا يطيق معه صبرا ولا يطيع له أمرا.

وهذا محمد -صلى الله عليه وسلم- كان ربما هم الناس أن يضللوه في الأحكام، فيدافع عن المجرم ظنا أنه برئ، حتى ينبئه العليم الخبير.

فإن كنت في شك من ذلك فاقرأ قوله تعالى:

{وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ﴿١٠٥﴾ وَاسْتَغْفِرِ اللَّـهَ ۖ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} النساء : 106

وقد صح في سبب نزولها أن لصا عدا ذات ليلة على مشربة لرجل من الأنصار يقال له رفاعة، فنقب مشربته، وسرق ما فيها من طعام وسلاح، فلما أصبح الأنصاري افتقد متاعه حتى أيقن أنه في بيت بني أبيرق، وكان فيهم منافقون،

فبعث ابن أخيه إلى النبي يشكو إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: "سأنظر في ذلك". فلما سمع بذلك بنو أبيرق جاءوا إلى النبي فقالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه رفاعة عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت.

الترمذي عن قتادة بن النعمان، ك/ تفسير القرآن، ب/ ومن سورة النساء "2962".

فجاء قتادة فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "يا قتادة، عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينة! " فرجع قتادة إلى عمه فأخبره، فقال عمه: الله المستعان. ثم لم تلبث أن نزلت الآية تبين للنبي خيانة بني أبيرق، وتأمره بالاستغفار مما قال لقتادة.

ابن ماجه عن طلحة بن عبيد الله عن أبيه، ك/ الأحكام، ب/ تلقيح النخل "2461".

الحديث رواه الترمذي2، وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم.

بل اسمع قوله -صلى الله عليه وسلم- عن نفسه فيما يرويه أحمد وابن ماجه: "إنما أنا بشر مثلكم، وإن الظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلت لكم " قال الله" فلن أكذب على الله"3

وقوله

(إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها)

رواه مالك والشيخان وأصحاب السنن.

فمن كان هكذا عاجزا بنفسه عن إدراك حقيقة ما وقع بين خصمين في زمنه وفي بلده، وقد رأى أشخاصهما وسمع أقوالهما، هو بلا شك أشد عجزا عن إدراك ما فات، وما هو آت.

تلك هي شقة الغيب تنطفئ عندها مصابيح الفراسة والذكاء، فلا يدنو العقل منها إلا وهو حاطب ليل وخابط عشواء: إن أصاب الحق مرة أخطأه مرات، وإن أصابه مرات أخطأه عشرات، على أن الذي يصادفه الصواب لا يمكن الوثوق ببقائه معصوما من التغيير والتبديل، بل عسى أن تذهب به ريح المصادفة كما جاءت به ريح المصادفة

{ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} النساء : 82

الفصل الرابع

بيان أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- لا بد أن يكون أخذ القرآن عن معلم

البحث في الأوساط البشرية عن ذلك. لا مناص إذا للباحث عن مصدر القرآن من توسيع دائرة بحثه، فإذ لم يظفر بمطلبه عند صاحب القرآن في ناحية عقله وفراسته،

الفصل الرابع