الفصل الرابع

بيان أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- لا بد أن يكون أخذ القرآن عن معلم

اقرأ المزيد

البحث في الأوساط البشرية عن ذلك:

لا مناص إذا للباحث عن مصدر القرآن من توسيع دائرة بحثه، فإذ لم يظفر بمطلبه عند صاحب القرآن في ناحية عقله وفراسته، وجب أن يلتمسه -وأن يظفر به حتما-

في ناحية تعليمه ودراسته؛ لأن المتكلم بكلام ما لا يعدو أن يكون قائلا له أو ناقلا. ولا ثالث لهما.

نعم؛ إن صاحب هذا القرآن لم يكن ممن يرجع بنفسه إلى كتب العلم ودواوينه، لأنه باعتراف الخصوم كما ولد أميا نشأ أميا وعاش أميا،

فما كان يوما من الأيام يتلو كتابا في قرطاس ولا يخطه بيمينه، فلا بد له من معلم يكون قد وقفه على هذه المعاني لا بطريق الكتابة والتدوين بل بطريق الإملاء والتلقين، هذا هو حكم المنطق.

سنقول: فمن هو ذلك المعلم؟ نقول: هذا هو الشطر الثاني من مسألة القرآن.

وأنت إذا تأملت فيما سقناه لك من البراهين على الشطر الأول وجدت بجانب كل منها برهانا آخر على هذا الشطر الثاني، وعرفت من ذلك المعلم؟ غير أننا نحب أن نزيدك به معرفة؛ حتى تقول معنا فيه:

{ مَا هَـٰذَا بَشَرًا إِنْ هَـٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ٌ} يوسف: ٣١

البحث عنه بين الأميين:

أما أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- لم يكن له معلم من قومه الأميين فذلك ما لا شبهة فيه لأحد، ولانحسب أحدا في حاجة إلى الاستدلال عليه بأكثر من اسم "الأمية" الذي يشهد عليهم بأنهم كانوا خرجوا من بطون أمهاتهم لا يعلمون من أمر الدين شيئا،

وكذلك اسم "الجاهلية" الذي كان أخص الألقاب بعصر العرب قبل الإسلام، فهؤلاء الذين فقدوا أساس هذا العلم في أنفسهم حتى اشتق لهم من الجهل اسم، كيف يحملون وسام التعليم فيه لغيرهم،

بله التعليم لمعلمهم الذي وسمهم بالجهل غير مرة في كتابه، وسرد جهالاتهم في غير سورة من هذا الكتاب، حتى قيل: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما بعد المائة من سورة الأنعام. وأما أنه لم يكن له معلم من غيرهم فحسب الباحث فيه أن نحيله على التاريخ وندعه يقلب صفحات القديم منه والحديث، والإسلامي منه والعالمي،

ثم نسأله: هل قرأ فيه سطرا واحدا؟ يقول: إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب لقي قبل إعلان نبوته فلانا من العلماء فجلس إليه يستمع من حديثه عن علوم الدين، ومن قصصه عن الأولين والآخرين.

ليس علينا أن نقيم برهانا أكبر من هذا التحدي لإثبات أن ذلك لم يكن، وإنما على الذين يزعمون غير ذلك أن يثبتوا أن ذلك قد كان، فإن كان عندهم علم فليخرجوه لنا إن كانوا صادقين.

البحث عنه بين أهل العلم:

لا نقول: إنه عليه السلام لم يلق ولم ير بعينه أحدا من علماء هذا الشأن لا قبل دعوى النبوة ولا بعدها. فنحن قد نعرف أنه رأى في طفولته راهبا اسمه بحيرا في سوق بصرى بالشام،

وأنه لقي في مكة نفسها عالما اسمه ورقة بن نوفل، وكان هذا على إثر مجيء الوحي العلني، له وقبل إعلان نبوته بثلاثين شهرا، كما نعرف أنه لقي بعد إعلان نبوته كثيرا من علماء اليهود والنصارى في المدينة.

ولكننا ندعي دعوى محدودة، نقول: إنه لم يتلق عن أحد من هؤلاء العلماء لا قبل ولا بعد، وإنه قبل نبوته لم يسمع منهمشيئا من هذه الأحاديث البتة. أما الذين لقوه بعد النبوة فقد سمع منهم وسمعوا منه. ولكنهم كانوا له سائلين وعنه آخذين، وكان هو لهم معلما وواعظا ومنذرا ومبشرا.

وأما الذين رآهم قبل فإن لقائه إياهم لم يكن سرا مستورا، بل كان معه في كل مرة شاهد:

فكان عمه أبو طالب رفيقا له حين رأى راهب الشام، وكانت زوجه خديجة رفيقة له حين لقي ورقة، فماذا سمعه هذان الرفيقان من علوم الأستاذين؟

هلا حدثنا التاريخ بخبر ما جرى؟ وما له لا يحدثنا هذا الحديث العجب الذي جمع في تلك اللحظة القصيرة علوم القرآن وتفاصيل أخباره فيما بين بداية العالم ونهايته!!

ولماذا لم يتخذ خصومه من هذه الحجة الواضحة سلاحا قاطعا لحجته مع شدة سعيهم في هدم دعواه، والتجائهم لأوهن الشبهات في تكذيبه، وقد كان هذا السلاح أقرب إليهم، وكان وحده أمضى في إبطال أمره من كل ما لجأوا إليه من مهاترة ومكابرة.

إن سكوت التاريخ عن ذلك كله حجة كافية على عدم وجوده؛ لأنه ليس من الهنات الهينات التي يتغاضى عنها الناس الواقفون لهذا الأمر بالمرصاد.

على أن التاريخ لم يسكت، بل نبأنا بما كان من أمر الرجلين: فقد حدثنا عن راهب الشام أنه لما رأى هذا الغلام رأى فيه من سيما النبوة الأخيرة وحليتها في الكتب الماضية ما أنطقه بتبشير عمه قائلا:

إن هذا الغلام سيكون له شأن عظيم. وحدثنا عن ورقة أنه لما سمع ما قصه عليه النبي من صفة الوحي وجد فيها من خصائص الناموس الذي نزل على موسى ما جعله يعترف بنبوته ويتمنى أن يعيش حتى يكون من أنصاره.

فمن عرف للتاريخ حرمته وآمن بوقائعه كما هي، كانت هذه الوقائع حجة لنا عليه، ومن لم يستح أن يزيد في التاريخ حرفا من عنده فيقول:

إن محمدا ضم السماع إلى اللقاء فليتقول ما يشاء، وليعلم أنه سوف يخرج لنا بهذه الزيادة تاريخا متناقضايكذب أوله آخره، وآخره أوله؛

إذ كيف يعقل أن رجلا رأى علامات النبوة في امرئ فبشره بها قبل وقوعها، أو آمن بها بعد وقوعها، تطاوعه نفسه أن يقف من صاحب هذه النبوة موقف المرشد المعلم!

فأين يذهبون؟!

القسم الأول

موقف محمد -صلى الله عليه وسلم- من العلماء موقف المصحح لما حرفوا، الكاشف لما كتموا:

على أننا نعود فنسأل: هل كان في العلماء يومئذ من يصلح أن تكون له على محمد وقرآنه تلك اليد العلمية؟

القسم الأول