الفصل الرابع /موقف محمد -صلى الله عليه وسلم- من العلماء موقف المصحح لما حرفوا، الكاشف لما كتموا:

موقف محمد -صلى الله عليه وسلم- من العلماء

اقرأ المزيد

على أننا نعود فنسأل: هل كان في العلماء يومئذ من يصلح أن تكون له على محمد وقرآنه تلك اليد العلمية؟

يقول الملحدون أنفسهم: "إن القرآن هو الأثر التاريخي الوحيد الذي يمثل روح عصره أصدق تمثيل". وهذه كلمة حق في حدود معناها الصحيح1 فنحن نأخذهم باعترافهم وندعوهم إلى استجلاء تلك الصورة التي حفظها القرآن في مرآته الناصعة مثالا واضحا لعلماء عصره.

فيقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران؛ وما فيهما من المحاورة لعلماء اليهود والنصارى في العقائد والتواريخ والأحكام، أو ليقرءوا ما شاءوا من السور المدنية أو المكية التي فيها ذكر أهل الكتاب،

ولينظروا بأي لسان يتكلم عنهم القرآن، وكيف يصور لنا علومهم بأنها الجهالات، وعقائدهم بأنها الضلالات والخرافات، وأعمالهم بأنها الجرائم والمنكرات. فإن أنت أحببت زيادة البيان فإليك نموذجا من وصفه وتفنيده لأغلاطهم ومغالطاتهم التاريخية:

{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} آل عمران: ٦٥

{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ} البقرة: ١٤٠


1 وهو أنه يمثلها ولا يتمثلها. وإن شئت فقل: إنه يمثلها أصدق تمثيل، ثم يمثل بها أنكى تمثيل.

{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} آل عمران: ٩٦

{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ} آل عمران: ٩٣

وهذا طرف من وصفه وتفنيده لخرافاتهم الدينية

{وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } ق: ٣٨

{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } البقرة: ١٠٢

{لَّقَدْ سَمِعَ اللَّـهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ۘ} آل عمران: ١٨١

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّـهِ مَغْلُولَةٌ} المائدة: ٦٤

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّـهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} المائدة: ١٨

{لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} المائدة: ١٧

{لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ۘ َ} المائدة: ٧٣

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّـهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ} آل عمران: ٦٤

فانظر كيف صور القرآن عقيدة علماء الدين في زمنه، ولا سيما علماء النصارى، فقد كان طابع الشرك في ديانتهم لا يخفى على أحد، حتى إن الأميين فطنوا له فاتخذوا منه عزاء لهم في شركهم

{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } الزخرف: ٥٧

بل اتخذوا منه حجة على أن التوحيد الذي دعاهم إليه القرآن بدع في الدين لم يسبق إليه فقالوا:

{مَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ } ص: ٧

يعنون ملة النصرانية.

وهذه سلسلة أخرى من جرائمهم يسردها القرآن متواصلة الحلقات:

{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّـهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ } النساء: ١٥٥

إلى أن قال:

{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ﴿١٥٦﴾ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} النساء:156 -157

إلى أن قال:

(فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ كَثِيرًا ﴿١٦٠﴾ وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ۚ ) النساء:160 -161

فهل ترى في هذا كله صورة أساتذة يتلقى عنهم صاحب القرآن علومه؟ أم بالعكس ترى منه معلما يصحح لهم أغلاطهم وينعي عليه سوء حالهم. ا ننكر أنه كان في أهل الكتاب قليل من العلماء الراسخين، لكن الراسخون في العلم منهم آمنوا بالقرآن وبنبي القرآن -صلى الله عليه وسلم:

{قُلْ كَفَىٰ بِاللَّـهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } الرعد: ٤٣

فلو كانوا له معلمين لآمنوا بأنفسهم بدل أن يؤمنوا به. ولنعد مرة أخرى فنسأل: هل كان علم العلماء يومئذ مبذولا لطالبيه مباحا لسائليه؟

أم كان حرصهم على هذا العلم أشد من حرصهم على حياتهم، وكانوا يضنون به حتى على أبنائهم استبقاء لرياستهم، أو طمعا في منصب النبوة الذي كانوا يستشرفون له في ذلك العصر.

لنستنطق القرآن الذي رضيه الملحدون حكما بيننا وبينهم، فإنه يكفينا مئونة الجواب عن هذا السؤال، وها هو ذا يقول لنا: إنهم كانوا في سبيل الضن بكتبهم وعلومهم لا يتورعون عن منكر، فكانوا تارة

{ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِندِ اللَّـهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ } البقرة: ٧٩

وتارة

{يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّـهِ} آل عمران: ٧٨

وتارة

{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} المائدة: ١٣

وتارة يبترون الكتب فيظهرون بعضها ويخفون بعضه

{قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ۖ } الأنعام: ٩١

وتارة يحاجون بمحفوظهم فإذا قيل لهم:

{ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} آل عمران: ٩٣

بهتوا؛ فلم يجيبوا، وربما جاءوا بها فقرءوا ما قبل الشاهد وما بعده وستروا بكفهم مكان النص المجادل فيه، كما وقع في قصة الرجم7. انظر صحيح البخاري في تفسير الآية الآنفة.

فجاء القرآن يرميهم علنا باللبس والكتمان

{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } آل عمران: ٧١

بل جاء كاشفا لما ستروه مبينا لما كتموه حاكما فيما اختلفوا فيه

{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ } المائدة: ١٥


{ إِنَّ هَـٰذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } النمل: ٧٦

( تَاللَّـهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿٦٣﴾ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ۙ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿٦٤﴾) النحل : 63 - 64

انظر إلى الآيات من سورتي النحل والنمل المكيتين كيف جعلت من مقاصد القرآن الأساسية بيان ما اختلف فيه أهل الكتاب، بل جعلته أول تلك المقاصد حيث بدأت به، وثنت بالهدى والرحمة للمؤمنين.

من زعم أن له -صلى الله عليه وسلم- معلما من البشر فليسمه:

ونعود للمرة الثالثة فنقول لمن يزعم أن محمدا كان يعلمه بشر: قل لنا ما اسم هذا المعلم! ومن ذا الذي رآه وسمعه؟ وماذا سمع منه؟ ومتى كان ذلك؟ وأين كان؟

فإن كلمة "البشر" تصف لنا هذا العالم الذين يمشون على الأرض مطمئنين؛ ويراهم الناس غادين ورائحين، فلا تسمع دعواها بدون تحديد وتعيين،

بل يكون مثل مدعيها كمثل الذين يخلقون لله شركاء لا وجود لهم إلا في الخيال والوهم. فيقال له كما قيل لهم:

{قُلْ سَمُّوهُمْ ۚ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ ۗ } الرعد: ٣٣

بل نقول: هل ولد هذا النبي في المريخ، أو نشأ في مكان قصي عن العالم، فلم يهبط على قومه إلا بعد أن بلغ أشده واستوى، ثم كانوا بعد ذلك لا يرونه إلا لماما؟ ألم يولد في حجورهم؟ ألم يكن يمشي بين أظهرهم يصبحهم ويمسيهم؟ ألم يكونوا يرونه بأعينهم في حله ورحيله؟

{أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } المؤمنون: ٦٩


نعم؛ إن قومه قد طوعت لهم أنفسهم أن يقولوا هذه الكلمة:

{ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ} النحل: ١٠٣

ولكن هل تراهم كانوا في هذه الكلمة جادين، وكانوا يشيرون بها إلى بشر حقيقي عرفوا له تلك المنزلة العلمية؟ كلا؛

إنهم ما كان يعنيهم أن يكونوا جادين محقين، وإنما كان كل همهم أن يدرءوا عن أنفسهم معرة السكوت والإفحام، بأية صورة تتفق لهم من صور الكلام: بالصدق أو بالكذب، بالجد أو باللعب.

وما أدراك من هو ذلك البشر الذي قالوا: إنه يعلمه؟

أتحسب أنهم اجترءوا أن ينسبوا هذا التعليم لواحد منهم؟ كلا؛ فقد رأوا أنفسهم أوضح جهلا من أن يعلموا رجلا جاءهم بما لم يعرفوا هم ولا آباؤهم.

أم تحسب أنهم لما وجدوا أرض مكة مقفرة من علماء الدين والتاريخ في عهد البعثة المحمدية عمدوا إلى رجل من أولئك العلماء في المدينة أو في الشام أو غيرهما فنسبوا ذلك التعليم إليه؟ كلا؛ إن ألسنتهم لم تطاوعهم على النطق بهذه الكلمة أيضا.فمن ذا، إما لا ... ؟

لقد وجدوا أنفسهم مضطرين أن يلتمسوا شخصا يتحقق فيه شرطان:

أحدهما: أن يكون من سكان مكة نفسها لتروج عنهم دعوى أنه يلاقيه ويملي عليه بكرة وأصيلا. وثانيهما: أن يكون من غير جلدتهم وملتهم ليمكن أن يقال: إن عنده علم ما لم يعلموا. وقد التمسوا هذ الأوصاف فوجدوها، أتدري أي وجدوها؟ .. في حداد رومي!!

نعم، وجدوا في مكة غلاما تعرفه الحوانيت والأسواق، ولا تعرفه تلك العلوم في قليل ولا كثير، غير أنه لم يكن أميا ولا وثنيا مثلهم، بل كان نصرانيا يقرأ ويكتب، فكان من أجل ذلك خليقا في زعمهم أن يكون أستاذا لمحمد،

وبالتالي أستاذا لعلماء اليهود والنصارى والعالم أجمعين، ولئن سألتهم هل كان ذلك الغلام فارغا لدراسة الكتب وتمحيص أصيلها من دخيلها، ورد متشابهها إلى محكمها، وهل كان مزودا في عقله ولسانه بوسائل الفهم والتفهيم..

لعرفت أنه كان حدادا منهمكا في مطرقته وسندانه، وأنه كان عامي الفؤاد لا يعلم الكتاب إلا أماني، أعجمي اللسان لا تعدو قراءته أن تكون رطانة لا يعرفها محمد ولا أحد من قومه، لكن ذلك كله لم يكن ليحول بينه وبين لقب الأستاذية الذي منحوه إياه على رغم أنف الحاسدين!

هكذا ضاقت بهم دائرة الجد فما وسعهم إلا فضاء الهزل، وهكذا أمعنوا في هزلهم حتى خرجوا عن وقار العقل، فكان مثلهم كمثل من يقول: إن العلم يستقى من الجهل، وإن الإنسان يتعلم كلامه من الببغاء! وكفى بهذا هزيمة وفضيحة لقائله

{ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} النحل: ١٠٣

نعم، إنهم رأوا في هذا الأسلوب من حلاوة الفكاهة والملحة ما يسيغ مراة الزور والباطل، ورأوا في هذه الصورة الخيالية من التهكم والسخرية ما يشفي صدورهم ويجعلهم يتضاحكون بملء أفواههم،

ولكنهم ما دروا أن في طي هذه السخرية سخرية بهم، وأنهم قد شهدوا فيها على أنفسهم أنهم أجهل الأمم، وأن كل غريب عنهم -ولو كان غلاما سوقيا-

أهل لأن يقال عنه: إن عنده من العلم ما ليس عندهم. فيا له من نطق كان العي في موضعه خيرا لهم وأستر عليهم، ويا له من سلاح أرادوا أن يجرحوا به خصمهم، فجرحوا به أنفسهم من حيث لا يشعرون.

أما الحق الذي كانوا يخاصمونه فقد -والله- زادوه بهذا الاتهام قوة إلى قوته.

ذلك أنهم حين خرجوا يلتمسون واحدا من البشر يمكن أن ينسب إليه هذا العلم المحمدي لم يستطيعوا أن يفترضوا له مصدرا تعليميا خارج حدود قريته، بل كان آخر جهد بذلوه من حيلتهم وآخر سهم رموه من كنانتهم أن جاءوا من بين ظهرانيهم بهذا الغلام الذي عرفت خبره.

فيا ليت شعري لو كان هذا الغلام أن يكون مرجعا علميا كما أرادوا أن يصفوه، فما الذي منعهم أن يأخذوا عنه كما أخذ صاحبهم؟

وبذلك كانوا يستريحون من عنائه ويداوونه من جنس دائه، بل ما منع ذلك الغلام أن يبدي للعالم صفحته فينال في التاريخ شرف الأستاذية. أو يتولى بنفسه تلك القيادة العالمية؟

ويا ليت شعري لماذا لم ينسبوا تلك العلوم الغريبة عنهم إلى أهلها الموسومين بها من الربانين والأحبار في المدينة أو من القسيسين والرهبان في الشام، أولئك الذين قضوا أعمارهم في دراستها وتعليمها؟ أليس ذلك -لو كان ممكنا أو شبيها بالممكن- كان هو أحسن تلفيقا وأجود سبكا وأدنى إلى الرواج وأبعد عن الإحالة من نسبتها إلى حداد مكة؟

أم ضاقت بهم الأرض فلم يجدوا أحدا أمثل منه ولا أعلم بالدين والتاريخ؟

تالله لولا أنهم وجدوا باب التعليم الخارجي أمنع سدا من سائر الأبواب وأدخل منها في معنى المكابرة التي لا تروج لما ضيقوا على أنفسهم دائرة الاتهام حتى تورطوا في هذا المحال المكشوف وافتضحوا بهذه المقالة الشوهاء.

هؤلاء قوم محمد -صلى الله عليه وسلم- وهم كانوا أحرص الناس على خصومته، وأدرى الناس بأسفاره ورحلاته، وأحصاهم لحركاته وسكناته، قد عجزوا كما ترى أن يعقدوا صلة علمية بينه وبين أهل العلم في عصره،

فما للملحدين اليوم وقد مضى نيف وثلاثة عشر قرنا انفضت فيها سوق الحوادث، وجفت الأقلام، وطويت الصحف، لا يزالون يبحثون عن تلك الصلة في قمامات التاريخ، وفي الناحية التي أنف قومه أن ينبشوها؟

ألا فليريحوا أنفسهم من عناء البحث، فقد كفتهم قريش مئونته، وليشتغلوا بغير هذه الناحية التي قضى التاريخ والمنطق على كل محاولة فيها بالفشل، فإن أبوا فليعلموا أن كل شبهة تقام في وجه الحق الواضح سيحيلها الحق حجة لنفسه يضمها إلى حججه وبيناته.

القسم الثاني

حيرة المعاندين قديما وحديثا:

نعود رابعا وأخيرا فنقول: لو كانت "نسبة هذه العلوم القرآنية إلى تعليم البشر" من الدعاوي التي تعبر عن فكرة أو شبهة ...

القسم الثاني