لقد علم الناس أجمعون علما لا يخالطه شك أن هذا الكتاب العزيز جاء على لسان رجل عربي أمي ولد بمكة في القرآن السادس الميلادي، اسمه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله.. هذا القدر لا خلاف فيه بين مؤمن وملحد؛ لأن شهادة التاريخ المتواتر به لا يماثلها ولا يدانيها شهادته لكتاب غيره ولا لحادث غيره ظهر على وجه الأرض.
أما بعد، فمن أين جاء به محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم؟ أمن عند نفسه ومن وحي ضميره، أم من عند معلم؟ ومن هو ذلك المعلم؟
تحديد الدعوى أخذا من النصوص القرآنية: نقرأ في هذا الكتاب ذاته أنه ليس من عمل صاحبه، وإنما هو قول رسول كريم، ذو قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين: ذلكم هو جبريل -عليه السلام- تلقاه من لدن حكيم عليم، ثم نزله بلسان عربي مبين على قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- فتلقنه محمد منه كما يتلقن التلميذ عن أستاذه نصا من النصوص، ولم يكن له فيه من عمل بعد ذلك إلا:"
- الوعي والحفظ
- الحكاية والتبليغ
- البيان والتفسير
- التطبيق والتنفيذ
أما ابتكار معانيه وصياغة مبانيه فما هو منهما بسبيل، وليس له من أمرهما شيء، إن هو إلا وحي يوحى. وهكذا سماه القرآن حيث يقول:
(وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا ۚ قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ)
(قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ)
وأمثال هذه النصوص كثيرة في شأن إيحاء المعاني، ثم يقول في شأن الإيحاء اللفظي:
(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ) (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴿١٦﴾ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴿١٧﴾ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴿١٨﴾ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴿١٩﴾) (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿١﴾ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿٢﴾ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴿٣﴾) (الْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ) (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا)
فانظر كيف عبر بالقراءة والإقراء، والتلاوة والترتيل، وتحريك اللسان، وكون الكلام عربيا، وكل أولئك من عوارض الألفاظ لا المعاني البحتة. القرآن إذا صريح في أنه "لا صنعة فيه لمحمد -صلى الله عليه وسلم- ولا لأحد من الخلق، وإنما هو منزل من عند الله بلفظه ومعناه". والعجب أن يبقى بعض الناس في حاجة إلى الاستدلال على الشطر الأول من هذه المسألة، وهو أنه ليس من عند محمد -صلى الله عليه وسلم.
في الحق أن هذه القضية لو وجدت قاضيا يقضي بالعدل لاكتفى بسماع هذه الشهادة التي جاءت بلسان صاحبها على نفسه، ولم يطلب وراءها شهادة شاهد آخر من العقل أو النقل، ذلك أنها ليست من جنس "الدعاوى" فتحتاج إلى بينة، وإنما هي من نوع "الإقرار" الذي يؤخذ به صاحبه ولا يتوقف صديق ولا عدو في قبوله منه، إن أية مصلحة للعاقل الذي يدعي لنفسه حق الزعامة ويتحدى الناس بالأعاجيب والمعجزات لتأييد تلك الزعامة، نقول: أية مصلحة له في أن ينسب بضاعته لغيره، وينسلخ منها انسلاخا؟ على حين أنه كان يستطيع أن ينتحلها فيزداد بها رفعة وفخامة شأن، ولو انتحلها لما وجد من البشر أحدا يعارضه ويزعمها لنفسه.
الذي نعرفه أن كثيرا من الأدباء يبسطون على آثار غيرهم فيسرقونها أو يسرقون منها ما خف حمله وغلت قيمته وأمنت تهمته، حتى إن منهم من ينبش قبور الموتى ويلبس من أكفانهم ويخرج على قومه في زينة من تلك الأثواب المستعارة. أما أن أحدا ينسب لغيره أنفس آثار عقله وأغلى ما تجود به قريحته فهذا ما لم يلده الدهر بعد. ولو أننا افترضناه افتراضا لما عرفنا له تعليلا معقولا ولا شبه معقول، اللهم إلا شيئا واحدا قد يحيك في صدر الجاهل، وهو أن يكون هذا الزعيم قد رأى أن في "نسبته القرآن إلى الوحي الإلهي" ما يعينه على استصلاح الناس باستيجاب طاعته عليهم ونفاذ أمره فيهم؛ لأن تلك النسبة تجعل لقوله من الحرمة والتعظيم ما لا يكون له لو نسبه إلى نفسه. وهذا قياس فاسد في ذاته، فاسد في أساسه.
أما إنه فاسد في ذاته؛ فلأن صاحب هذا القرآن قد صدر عنه الكلام المنسوب إلى نفسه والكلام المنسوب إلى الله تعالى؛ فلم تكن نسبته ما نسبه إلى نفسه بناقصة من لزوم طاعته شيئا، ولا نسبة ما نسبه إلى ربه بزائدة فيها شيئا، بل استوجب على الناس طاعته فيهما على السواء، فكانت حرمتهما في النفوس على سواء، وكانت طاعته من طاعة الله، ومعصيته من معصية الله، فهلا جعل كل أقواله من كلام الله تعالى لو كان الأمر كما يهجس به ذلك الوهم.
وأما فساد هذا القياس من أساسه؛ فلأنه مبني على افتراض باطل، وهو تجويز أن يكون هذا الزعيم من أولئك الذين لا يأبون في الوصول إلى غاية إصلاحية أن يعبروا إليها على قنطرة من الكذب والتمويه، وذلك أمر يأباه علينا الواقع التاريخي كل الإباء، فإن من تتبع سيرته الشريفة في حركاته وسكناته، وعباراته وإشاراته، في رضاه وغضبه، في خلوته وجلوته.. لا يشك في أنه كان أبعد الناس عن المداجاة والمواربة، وأن سره وعلانيته كانا سواء في دقة الصدق وصرامة الحق في جليل الشئون وحقيرها، وأن ذلك كان أخص شمائله وأظهر صفاته قبل النبوة وبعدها، كما شهد ويشهد به أصدقاؤه وأعداؤه1 إلى يومنا هذا (قُل لَّوْ شَاءَ اللَّـهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ ۖ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)
طرف من سيرته بإزاء القرآن
وكأني بك ها هنا تحب أن أقدم لك من سيرته المطهرة مثلا واضح الدلالة على مبلغ صدقه وأمانته في دعوى الوحي الذي نحن بصدده، وأنه لم يكن ليأتي بشيء من القرآن من تلقاء نفسه، فإليك طرفا من ذلك:
1: فترة الوحي في حادث الإفك:
ألم يرجف المنافقون بحديث الإفك عن زوجه عائشة -رضي الله عنها- وأبطأ الوحي، وطال الأمر والناس يخوضون، حتى بلغت القلوب الحناجر، وهو لا يستطيع إلا أن يقول بكل تحفظ واحتراس: "إني لا أعلم عنها إلا خيرا"
ثم إنه بعد أن بذل جهده في التحري والسؤال واستشارة الأصحاب، ومضى شهر بأكمله والكل يقولون: ما علمنا عليها من سوء. لم يزد على أن قال لها آخر الأمر: "يا عائشة، أما إنه بلغني كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله"
هذا كلامه بوحي ضميره، وهو كما نرى كلام البشر الذي لا يعلم الغيب، وكلام الصديق المتثبت الذي لا يتبع الظن، ولا يقول ما ليس له به علم. على أنه لم يغادر مكانه بعد أن قال هذه الكلمات حتى نزل صدر سورة النور معلنا براءتها، ومصدرا الحكم المبرم بشرفها وطهارتها. الحديث أخرجه الشيخان وغيرهما.
فماذا كان يمنعه -لو أن أمر القرآن إليه- أن يتقول هذه الكلمة الحاسمة من قبل ليحمي بها عرضه ويذب بها عن عرينه وينسبها إلى الوحي السماوي لتنقطع ألسنة المتخرصين؟ ولكنه ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ﴿٤٤﴾ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ﴿٤٥﴾ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ﴿٤٦﴾ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴿٤٧﴾)
2: مخالفة القرآن لطبع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعتابه الشديد له في المسائل المباحة: وأخرى كان يجيئه القول فيها على غير ما يحبه ويهواه. فيخطئه في الرأي يراه. ويأذن له في الشيء لا يميل إليه، فإذا تلبث فيه يسيرا تلقاه القرآن بالتعنيف الشديد، والعتاب القاسي، والنقد المر، حتى في أقل الأشياء خطرا:
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّـهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ) (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّـهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّـهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ) (عَفَا اللَّـهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّـهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّـهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿٦٧﴾ لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّـهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿٦٨﴾) ( أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ ﴿٥﴾ فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ ﴿٦﴾ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ ﴿٧﴾ وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ ﴿٨﴾ وَهُوَ يَخْشَىٰ ﴿٩﴾ فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ ﴿١٠﴾)
أرأيت لو كانت هذه التقريعات المؤلمة صادرة عن وجدانه، معبرة عن ندمه ووخز ضميره حين بدا له خلاف ما فرط من رأيه. أكان يعلنها عن نفسه بهذا التهويل والتشنيع؟ ألم يكن له في السكوت عنها ستر على نفسه، واستبقاء لحرمة آرائه؟ بلى؛ إن هذا القرآن لو كان يفيض عن وجدانه لكان يستطيع عند الحاجة أن يكتم شيئا من ذلك الوجدان، ولو كان كاتما شيئا لكتم أمثال هذه الآيات، ولكنه الوحي لا يستطيع كتمانه (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ)
استدلال من علم النفس على انفصال شخصية الوحي عن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم
وتأمل آية الأنفال المذكورة، تجد فيها ظاهرة عجيبة، فإنها لم تنزل إلا بعد إطلاق أسارى بدر وقبول الفداء منهم، وقد بدئت بالتخطئة والاستنكار لهذه الفعلة، ثم لم تلبث أن ختمت بإقرارها وتطبيب النفوس بها، بل صارت هذه السابقة التي وقع التأنيب عليها هي القاعدة لما جاء بعدها، فهل الحال النفسية التي يصدر عنها أول هذا الكلام -لو كان عن النفس مصدره- يمكن أن يصدر عنها آخره ولما تمض بينهما فترة تفصل بين زمجرة الغضب والندم وبين ابتسامة الرضا والاستحسان؟
لما جرى به العمل، فأي داع دعا إلى تصوير ذلك الخاطر الممحو وتسجيله، على ما فيه من تقريع علني بغير حق، وتنغيص لهذه الطعمة التي يراد جعلها حلالا طيبة؟ إن الذي يفهمه علماء النفس من قراءة هذا النص أن -ها هنا- ألبتة شخصيتين منفصلتين، وأن هذا صوت سيد يقول لعبده: لقد أسأت، ولكني عفوت عنك وأذنت لك.
وأنت لو نظرت في هذه الذنوب التي رفع العتاب عليها لوجدتها تنحصر في شيء واحد، وهو أنه عليه السلام كان إذا ترجح بين أمرين ولم يجد فيهما إنما اختار أقربهما إلى رحمة أهله وهداية قومه وتأليف خصمه، وأبعدهما عن الغلظة والجفاء، وعن إثارة
الشبه في دين الله، لم يكن بين يديه نص فخالفه كفاحا، أو جاوزه خطأ ونسيانا، بل كل ذنبه أنه مجتهد بذل وسعه في النظر، ورأى نفسه مخيرا فتخير، هبه مجتهدا أخطأ باختيار خلاف الأفضل.. أليس معذورا ومأجورا؟ على أن الذي اختاره كان هو خير ما يختاره ذو حكمة بشرية1 وإنما نبهه القرآن إلى ما هو أرجح في ميزان الحكمة الإلهية.
هل ترى في ذلك ذنبا يستوجب عند العقل هذا التأنيب والتثريب؟ أم هو مقام الربوبية ومقام العبودية، وسنة العروج بالحبيب في معارج التعليم والتأديب؟ توفي عبد الله بن أبي كبير المنافقين؛ فكفنه النبي في ثوبه، وأراد أن يستغفر له ويصلي عليه، فقال عمر -رضي الله عنه: أتصلي عليه وقد نهاك ربك؟ فقال -صلى الله عليه وسلم: "إنما خيرني ربي فقال: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) وسأزيده على السبعين" وصلى عليه، فأنزل الله تعالى: (وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ)
3 فترك الصلاة عليهم -اقرأ هذه القصة الثابتة برواية الصحيحين وانظر ماذا ترى؟ إنها لتمثل لك نفس هذا العبد الخاضع وقد اتخذ من القرآن دستورا يستملي أحكامه من نصوصه الحرفية، وتمثل لك قلب هذا البشر الرحيم وقد آنس من ظاهر
4 النص الأول تخييرا له بين طريقين، فسرعان ما سلك أقربهما إلى الكرم الرحمة، ولم يلجأ إلى الطريق الآخر إلا بعد ما جاءه النص الصريح بالمنع.
-
1 وما كان اختيار عمر -رضي الله عنه- في مسألة الأسرى ونحوها إلا مظهرا من مظاهر الشدة التي كانت أغلب على طبعه. وإن كادت هذه الشدة لتفتنه عن أمر الله يوم الحديبية كما سيجيء. فكانت موافقته للوحي في تلك المسائل مصادفة للحكم من غير مقدماته الحقيقية التي انفرد بها علام الغيوب.
2 البخاري عن ابن عمر، ك/ تفسير القرآن، ب/ قوله:
(وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ) - وما كان اختيار عمر -رضي الله عنه- في مسألة الأسرى ونحوها إلا مظهرا من مظاهر الشدة التي كانت أغلب على طبعه. وإن كادت هذه الشدة لتفتنه عن أمر الله يوم الحديبية كما سيجيء. فكانت موافقته للوحي في تلك المسائل مصادفة للحكم من غير مقدماته الحقيقية التي انفرد بها علام الغيوب. (66: 1.)
- البخاري عن ابن عمر، ك/ تفسير القرآن، ب/ قوله: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا ... } "4304".
- نقول: ظاهر النص؛ لأن العطف بأو يحتمل أن يكون التسوية لا التخيير، كما أن صيغة العدد تحتمل أن تكون المبالغة لا التحديد، وكلاهما احتمال قوي، إلا أن معنى التخيير والتحديد آت على أصل الوضع، وعلى مقتضى كرم الطبع، فلم يعدل عنه الرسول الكريم إلا بنص آخر.
وهكذا كلما درست مواقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- من القرآن في هذه المواطن أو غيرها تجلى لك فيه معنى العبودية الخاضعة ومعنى البشرية الرحيمة الرقيقة؛ وتجلى لك في مقابل ذلك من جانب القرآن، معنى القوة التي لا تتحكم فيها البواعث والأغراض بل تصدع بالبيان فرقانا بين الحق والباطل، وميزانا للخبيث والطيب، أحب الناس أم كرهوا، ورضوا أم سخطوا، آمنوا أم كفروا؛ إذ لا تزيدها طاعة الطائعين، ولا تنقصها معصية العاصين. فترى بين المقامين ما بينهما. وشتات ما بين سيد ومسود، وعابد ومعبود.
توقف الرسول -أحيانا- في فهم مغزى النص حتى يأتيه البيان:
ولقد كان يجيئه الأمر بالقول المجمل أو الأمر المشكل الذي لا يستبين هو ولا أصحابه تأويله حتى ينزل الله عليهم بيانه بعد. قل لي بربك: أي عاقل توحي إليه نفسه كلاما لا يفهم هو معناه، وتأمره أمرا لا يعقل هو حكمته؟ أليس ذلك من الأدلة الواضحة على أنه ناقل لا قائل، وأنه مأمور لا آمر؟
موقفه في قضية المحاسبة على النيات: نزل قوله تعالى: (وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّـهُ)
1 أزعجت الآية الصحابة إزعاجا شديدا، وداخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها من شيء آخر؛ لأنهم فهموا منها أنهم سيحاسبون على كل شيء حتى حركات القلوب وخطراتها -فقالوا: يا رسول الله، أنزلت علينا هذه الآية ولا نطيقها- فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" 2 فجعلوا يتضرعون بهذ الدعوات حتى أنزل الله بيانها بقوله: (لَا يُكَلِّفُ اللَّـهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)
- رواه مسلم عن أبي هريرة، ك/ الإيمان، ب/ بيان أنه سبحانه وتعالى لا يكلف إلا....... "179".
المذكورة، وهناك علموا أنهم إنما يحاسبون على ما يطيقون من شأن القلوب، وهو ما كان من النيات المكسوبة والعزائم المستقرة، لا من الخواطر والأماني الجارية على النفس بغير اختيار.
الحديث في مسلم وغيره، واشار إليه البخاري في التفسير مختصرا. وموضع الشاهد منه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لو كان يعلم تأويلها من أول الأمر لبين لهم خطأهم ولأزال اشتباههم من فوره؛ لأنه لم يكن ليكتم عنهم هذا العلم وهم في أشد الحاجة إليه، ولم يكن ليتركهم في هذا الهلع الذي كاد يخلع قلوبهم وهو بهم رءوف رحيم، ولكنه كان مثلهم ينتظر تأويلها.
ولأمر ما أخر الله عنهم هذا البيان. ولأمر ما وضع حرف التراخي في قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)
1. مسلكه صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية:
واقرأ في صحيح البخاري وسنن أبي داود وغيرهما قضية الحديبية، ففيها آية بينة: أذن الله للمؤمنين أن يقاتلوا من يعتدي عليهم أينما وجدوه، غير ألا يقاتلوا في الحرم من لم يقاتلهم فيه نفسه، فقال تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ)
2 فلما أجمعوا زيارة البيت الحرام في ذلك العام -وهو العام السادس من الهجرة- أخذوا أسلحتهم حذرا أن يقاتلهم أحد فيدافعوا عن أنفسهم الدفاع المشروع، ولما أشرفوا على حدود الحرم علموا أن قريشا قد جمعت جموعها على مقربة منهم فلم يئن ذلك من عزمهم؛ لأنهم كانوا على تمام الأهبة، بل زادهم ذاك استبسالا وصمموا على المضي إلى البيت،
فمن صدهم عنه قاتلوه، وكانت قريش قد نهكتها الحروب، فكانت البواعث كلها متضافرة والفرصة سانحة للالتحام في موقعة فاصلة يتمكن فيها الحق من
الباطل فيدمغه، وإنهم لسائرون عند الحديبية إذ بركت راحلة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخذ أصحابه يثيرونها إلى جهة الحرم فلا تثور، فقالوا: خلأت القصواء، خلأت القصواء، أي حرنت الناقة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل". يعني أن الله الذي اعتقل الفيل ومنع أصحابه من دخول مكة محاربين هو الذي اعتقل هذه الناقة ومنع جيش المسلمين من دخولها الآن عنوة، وهكذا أيقن أن الله تعالى لم يأذن لهم في هذا العام بدخول مكة مقاتلين، لا بادئين ولامكافئين.
وزجر الناقة فثارت إلى ناحية أخرى فنزل بأصحابه في أقصى الحديبية، وعدل بهم عن متابعة السير؛ امتثالا لهذه الإشارة الإلهية التي لا يعلم حكمتها، وأخذ يسعى لدخول مكة من طريق الصلح مع قريش قائلا: "والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها"
1. ولكن قريشا أبت أن يدخلها في هذا العام لا محاربا ولا مسالما، وأملت عليه شروطا قاسية بأن يرجع من عامه، وأن يرد كل رجل يجيئه من مكة مسلما، وألا ترد هي أحدا يجيئها من المدينة تاركا لدينه،
فقبل تلك الشروط التي لم يكن ليمليها مثل قريش في ضعفها على مثل المؤمنين في قوتهم، وأمر أصحابه بالتحلل من عمرتهم وبالعودة من حيث جاءوا، فلا تسل عما كان لهذا الصلح من الوقع السيئ في نفوس المسلمين، حتى إنهم لما جعلوا يحلقون بعضهم لبعض كاد يقتل بعضهم بعضا ذهولا وغما، وكادت تزيغ قلوب فريق من كبار الصحابة، فأخذوا يتساءلون فيما بينهم، ويراجعونه هو نفسه قائلين: لم نعطي الدنية في ديننا؟
وهكذا كاد الجيش يتمرد على أمر قائده ويفلت حبله من يده، أفلم يكن من الطبيعي إذ ذاك لو كان هذا القائد هو الذي وضع هذه الخطة بنفسه أو اشترك في وضعها أو وقف على أسرارها أن يبين لكبار أصحابه حكمة هذه التصرفات التي فوق العقول، حتى يطفئ نار الفتنة قبل أن يتطاير شررها؟ ولكن انظر كيف كان جوابه حين راجعه
1 رواه البخاري عن المسور بن مخرمة، ك/ الشروط، ب/ الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب "2529".عمر: "إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري". يقول: إنما أنا عبد مأمور ليس لي من الأمر شيء إلا أن أنفذ أمر مولاي واثقا بنصره قريبا وبعيدا. وهكذا ساروا راجعين وهم لايدرون تأويل هذا الإشكال حتى نزلت سورة الفتح فبينت لهم الحكم الباهرة والبشارات الصادقة، فإذا الذي ظنوه ضيما وإجحافا في بادئ الرأي كان هو النصر المبين والفتح الأكبر 1 وأين تدبير البشر من تدبير القدر؛ (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ۚ وَكَانَ اللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴿٢٤﴾ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ۚ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۖ لِّيُدْخِلَ اللَّـهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۚ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿٢٥﴾ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّـهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ۚ وَكَانَ اللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴿٢٦﴾ لَّقَدْ صَدَقَ اللَّـهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّـهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ﴿٢٧﴾)
2.منهجه صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقي النص أول عهده بالوحي:
لقد كان -صلى الله عليه وسلم- حين ينزل عليه القرآن في أول عهده بالوحي يتلقفه متعجلا فيحرك به
1 قال ابن إسحاق قال الزهري: فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم من فتح الحديبية، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس بعضهم بعضا التقوا وتفاوضوا في الحديث، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا في تلك المدة إلا دخل فيه. وفسر ذلك صاحب الفتح فقال: إن الناس لأجل الأمن الذي وقع بينهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وظهر من كان يخفي إسلامه، وأسمع المسلمون المشركين القرآن، وناظروهم جهرة آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلا خفية. فذل المشركون من حيث أرادوا العزة، وأقهروا من حيث أرادوا الغلبة.
لسانه وشفتيه؛ طلبا لحفظه، وخشية ضياعه من صدره. ولم يكن ذلك معروفا من عادته في تحضير كلامه، لا قبل دعواه النبوة ولا بعدها، ولا كان ذلك من عادة العرب، إنما كانوا يزورون كلامهم في أنفسهم، فلو كان القرآن منبجسا من معين نفسه لجرى على سنة كلامه وكلامهم، ولكان له من الروية والأناة الصامتة ما يكفل له حاجته من اتضاج الرأي وتمحيص الفكرة، ولكنه كان يرى نفسه أمام تعليم يفاجئه وقتيا ويلم به سريعا، بحيث لا تجدي الروية شيئا في اجتلابه لو طلب، ولا في تداركه واستذكاره لو ضاع منه شيء، وكان عليه أن يعيد كل ما يلقى إليه حرفيا، فكان لا بد له في أول عهده بتلك الحال الجديدة التي لم يألفها من نفسه أن يكون شديد الحرص على المتابعة الحرفية، حتى ضمن الله له حفظه وبيانه بقوله: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) وقوله: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا)
طرف من سيرته العامة -صلى الله عليه وسلم:
1: هذا طرف من سيرته بإزاء القرآن، وكلها شواهد ناطقة بدقه في أن القرآن لم يصدر عنه، بل ورد إليه، وأنه لم يفض عن قلبه بل أفيض عليه، فإذا أنت صعدت بنظرك إلى سيرته العامة لقيت من جوانبها مجموعة رائعة من الأخلاق العظيمة.
وحسبك الآن منها أمثلة يسيرة إذا ما تأملتها صورت لك إنسانا الطهر ملء ثيابه، والجد حشو إهابه، يأبى لسانه أن يخوض فيما لا يعلمه، وتأبى عيناه أن تخفيا خلاف ما يعلنه، ويأبى سمعه أن يصغي إلى غلو المادحين له، تواضع هو حلية العظماء،
وصراحة نادرة في الزعماء، وتثبت قلما تجده عند العلماء. فأنى من مثله الختل أو التزوير، أو الغرور أو التغرير؟ حاشا لله!
جلست جويريات يضربن بالدف في صبيحة عرس الربيع بنت معوذ الأنصارية، وجعلن يذكرن آباءهن من شهداء بدر حتى قالت جارية منهن: وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال -صلى اللهعليه وسلم : "لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين" 1.
ومصداقه في كتاب الله تعالى: (قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّـهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) (وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ)
2: كان عبد الله بن أبي السرح أحد النفر الذين استثناهم النبي من الأمان يوم الفتح لفرط إيذائهم للمسلمين وصدهم عن الإسلام، فلما جاء إلى النبي لم يبايعه إلا بعد أن شفع له عثمان -رضي الله عنه- ثلاثا، ثم أقبل على أصحابه فقال:
"أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين كففت يدي عن بيعته فيقتله"؟ فقالوا: ما ندري ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك! فقال -صلى الله عليه وسلم: "إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين". 4.
3: وجيء بصبي من الأنصار يصلي عليه، فقالت عائشة رضي الله عنها: طوبى لهذا، لم يعمل شرا. فقال -صلى الله عليه وسلم: "أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا، وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلا، وخلقها لهم وهم في
- رواه البخاري عن الربيع بنت معوذ، ك/ المغازي، ب/ شهود الملائكة بدرا "3700".
- رواه أبو داود عن سعد، ك/ الجهاد، ب/ قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام، "2308".
- والنسائي عن مصعب بن سعد عن أبيه، ك/ تحريم الدم، ب/ الحكم في المرتد "3999".
أصلاب آبائهم" 1 رواه مسلم وأصحاب السنن.
4: ولما توفي عثمان بن مظعون -رضي الله عنه- قالت أم العلاء -امرأة من الأنصار: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال -صلى الله عليه وسلم:
"وما يدريك أن الله أكرمه"؟! فقال: بأبي أنت يا رسول الله، فمن يكرمه الله؟ قال: "أما هو فقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير. والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي". قالت: فو الله لا أزكي أحدا بعده أبدا2. رواه البخاري والإمام أحمد.
ومصداقه في كتاب الله تعالى: (قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ)
أتراه لو كان حين يتحامى الكذب يتحاماه دهاء وسياسة، خشية أن يكشف الغيب قريبا أو بعيدا عن خلاف ما يقول، ما الذي كان يمنعه أن يتقول ما يشاء في شأن ما بعد الموت وهو لا يخشى من يراجعه فيه، ولا يهاب حكم التاريخ عليه؟! بل منعه الخلق العظيم، وتقدير المسئولية الكبرى أمام حاكم آخر أعلى من التاريخ وأهله (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ﴿٦﴾ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ ۖ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ﴿٧﴾)
واعلم أنك مهما أزحت عن نفسك راحة اليقين وأرخيت لها عنان الشك وتركتها تفترض أسوأ الفروض في الواقعة الواحدة والحادثة الفذة من هذه السيرة المكرمة فإنك متى وقفت منها على مجموعة صالحة لا تملك أن تدفع هذا اليقين عن نفسك إلا بعد
- قال العلماء: إن هذا التوقف كان قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة، في صحيح مسلم عن عائشة أم المؤمنين، ك/ القدر، ب/ معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت "4813". ورواه أبو داود عن عائشة أم المؤمنين، ك/ السنة، ب/ في ذراري المشركين "4090".
- رواه البخاري عن خارجة بن زيد بن ثابت، ك/ الجنائز، ب/ الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في ... "1166".
- . قال العلماء: وكان هذا قبل أن يوحى إليه صدر سورة الفتح {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} .
أن تتهم وجدانك وتشك في سلامة عقلك. فنحن قد نرى الناس يدرسون حياة الشعراء في أشعارهم فيأخذون عن الشاعر من كلامه صورة كاملة تتمثل فيها عقائده وعوائده وأخلاقه ومجرى تفكيره وأسلوب معيشته،
ولا يمنعهم زخرف الشعر وطلاؤه عن استنباط خيلته، وكشف رغوته عن صريحه؛ ذلك أن للحقيقة قوة غلابة تنفذ من حجب الكتمان فتقرأ بين السطور وتعرف في لحن القول، والإنسان مهما أمعن في تصنعه ومداهنته لا يخلو من فلتات في قوله وفعله تنم على طبعه إذا أحفظ أو أخرج أو احتاج أو ظفر أو خلا بمن يطمئن إليه.
-
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم فما ظنك بهذه الحياة النبوية التي تعطيك في كل حلقة من حلقاتها مرآة صافية لنفس صاحبها؛ فتريك باطنه من ظاهره، وتريك الصدق والإخلاص ماثلا في كل قول من أقواله وكل فعل من أفعاله.
-
بل كان الناظر إليه إذا قويت فطنته وحسنت فراسته يرى أخلاقه العالية تلوح في محياه ولو لم يتكلم أو يعمل، ومن هنا كان كثير ممن شرح الله صدورهم للإسلام لا يسألون رسول الله على ما قال برهانا، فمنهم العشير الذي عرفه بعظمة سيرته؛ ومنهم الغريب الذي عرفه بسيماه في وجهه. قال عبد الله بن سلام -رضي الله عنه: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة انجفل الناس إليه، وقيل:
-
"قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم! " فجئت في الناس لأنظر إليه، فلما استثبت وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب"1. رواه الترمذي بسند صحيح.
-
والآن، وقد وفينا لك الوعد بعرض هذه النماذج من السيرة النبوية، نعود إلى تقرير ما قصدناه من هذا العرض فنقول:
-
إن صاحب هذا الخلق العظيم وصاحب تلك المواقف المتواضعة بإزاء القرآن، ما كان ينبغي لأحد أن يمتري في صدقه حينما أعلن عن نفسه أنه ليس هو واضع ذلك الكتاب، وأن منزلته منه منزلة المتعلم المستفيد، بل كان يجب أن نسجل من هذا الاعتراف البريء دليلا آخر على صراحته وتواضعه.
- الترمذي عن عبد الله بن سلام، ك/ صفة القيامة والرقائق والورع، ب/ منه "2409".