الانتقال من جلاء الشبهة إلى شفاء الغلة، يكش جوانب من أسرار الإعجاز:
إن كان السائل من طلاب الحق كما وصفنا، وانتهى من بحثه إلى حيث أشرنا، فأبصر وسمع، وقايس ووازن، وذاق ووجد، فسوف يتقدم إلينا بكلمته الأخيرة قائلا:
نعم نثلت3 كنانة الكلام بين يدي، وعجمت سهامها فما وجدت كالقرآن أصلب عودا، ولقد وردت مناهل القول وتذوقت طعومها فما وجدت كالقرآن أعذب موردا.
والآن آمنت أنه كما وصفتموه نسيج وحده، وأنه يعلو وما يعلى، وأنه يحطم ما تحته، غير أنني وقد أدركت من قوة الأسلوب القرآني وحلاوته ما أدركت -لم يزل
- ألقاب اصطلح عليها علماء الرواية، يعنون من المرفوع ما نسب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- والموقوف ما نسب إلى الصحابة، والمقطوع ما نسب إلى التابعين.
- سورة الشورى: الآية 11.
- نثلت: استخرجت، يقال: نثل ما في الحفرة، ونثل ما في الوعاء، ونثل ما في الكنانة
الذي أحس به من ذلك معنى يتجمجم في الصدر لا أحسن تفسيره ولا أملك تعليله. وما زالت النفس بعد هذا وذاك نزاعة إلى درس تلك الخصائص والمزايا التي استأثر القرآن بها عن سائر الكلام، وكان فيها سر إعجازه اللغوي.
فهل من سبيل إلى عوض شيء من ذلك علينا لتطمئن به قلوبنا، ونزداد إيمانا إلى إيماننا؟
نقول: أما الآن فقد والله طلبت منا جسيما، وكلفتنا مراما بعيدا لمثله انتدب العلماء والأدباء من قبلنا وفي عصرنا، فحفيت من دونه أقلامهم، ولم يزيدوا إلا أن ضربوا له الأمثال، واعترفوا بأن ما خفي عليهم منه أكثر مما فطنوا له، وأن الذي وصفوه مما أدركوه أقل مما ضاقت به عباراتهم، ولم تقف به إشاراتهم.
نحن، وقد أفضت إلينا النوبة من بعدهم، هل تحسب أننا سنسلك سبيلا غير سبيلهم فنزعم أننا في هذه العجالة سنبرز لك سر الإعجاز جملة؟ كلا، ولا استقراء ما كشفه الناس من جوانبه، كلا، ولا استقصاء ما نحسه نحن من تلك الجوانب.
وإنما نريد أن نصور لك بعض تلك الخصائص التي تلاقينا من كتاب الله كلما سمعناه أو تلوناه وتدبرناه.
لعلك واجد في القليل منها ما لا تجده في الكثير مما يعده الناس، كأن زادك الناس من ذلك أنواعا رجونا أن نزيدك من النوع الواحد إقناعا وانتفاعا.