القرآن إيجاز كله، سواء مواضع إجماله ومواضع تفصيله:
قلنا: إن القرآن الكريم يستثمر دائما برفق أقل ما يمكن من اللفظ في توليد أكثر ما يمكن من المعاني. أجل؛ تلك ظاهرة بارزة فيه كله؛ يستوي فيها مواضع إجماله التي يسميها الناس مقام الإيجاز، ومواضع تفصيله التي يسمونها مقام الإطناب.
ولذلك نسميه إيجازا كله1؛ لأننا نراه في كلام المقامين لا يجوز سبيل القصد، ولا يميل إلى الإسراف ميلا ما، ونرى أن مراميه في كلام المقامين لا يمكن تأديتها كاملة العناصر
1 لما كان هذا اصطلاحا جديدا نخالف به مصطلح القوم لم نر بدا من إيضاح سبب المخالفة: قسم علماء البلاغة الكلام إلى "مساو" و"موجز" و"مطنب". وعرفوا المساواة بأنها أداء المعنى بلفظ على قدره، والإيجاز بأنه أداء المعنى بلفظ ناقص عنه واف به، والإطناب بأنه أداء المعنى بلفظ زائد عنه لفائدة.
وجعلوا المقياس الذي يضبط به هذا التقسيم أمرا عرفيا أو وضعيا: فاعتبر السكاكي المقدار الذي يتكلم به أوساط الناس في محاوراتهم ومتعارف خطابهم، هو ضابط المساواة، وهو القدر الذي لا يحمد منهم، ولا يذم في باب البلاغة، فما نقص عنه مع الوفاء به فهو الإيجاز، وما زاد عنه مع الإفادة فهو الإطناب.
والكلام البليغ إنما يقع في هذين الطرفين. هذا محصول كلام السكاكي. وقد وافقه الذين جاءوا من بعده على هذا التقسيم، إلا أن بعضهم رأى أن البناء على العرف فيه رد إلى الجهالة، فجعل حد المساواة هو المقدار الذي يؤدي المعاني الأولية بالوضع من غير رعاية للمناسبات الزائدة على أصل المعنى.
وقد فهمنا من وضعهم التقسيم على هذا الأساس، واعتبارهم المساواة بأحد هذين المقياسين المتحدين في المآل، أنهم ظنوا أن العبارة التي تؤدى بها المعاني الأولية في لسان العوام تقع دائما بين الإطالة والاختصار.
وهذا ما لا دليل عليه في العرف ولا في الوضع، أما الأول فإن العوام يتكلمون في المعنى الواحد باللفظ المطول تارة وبالمختصر تارة آخرى، وإن لم يتحروا إصابة المحز في كل منها، وأما الثاني فلأن اللفظ الذي وضع في اللغة لتأدية المعنى الأول مختلف،
فمنه ما يؤديه بوجه مجمل، ومنه ما يؤديه بلفظ مفصل، وكل من الإجمال والتفصيل يتفاوت في نفسه تفاوتا كثيرا، فلا ينضبط منهما قدر يرجع إليه في معرفة الإيجاز والإطناب؛
إذ ما من كلام وجيز إلا ويمكن تأدية معناه الإجمالي بأقل من لفظه أو بما يساويه وإن لم يغن غناءه ولم يوف وفاءه، حتى المثل الذي عدوه علما في الإيجاز وهو قوله تعالى: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} البقرة: ١٧٩
يمكن تأدية أصل معناه بقولك "انتقم تسلم" أو "اقتص تحيا" أو بالاكتفاء بكلمتين منه "القصاص حياة"، بل فاتحة الكتاب الكريم التي جمعت مقاصد القرآن كلها في سبع آيات يمكن أداء معانيها الأصلية في خمس كلمات:
"نحمدك اللهم ونعبدك، ونستعينك ونستهديك" وإن شئت ففي أقل من ذلك.=
والحلى بأقل من ألفاظه ولا بما يساويها. فليس فيه كلمة إلا هي مفتاح لفائدة جليلة، =وكذلك يقال: ما من كلام مطنب إلا ويمكن تأدية معناه الوضعي مفصلا في لفظ أطول منه، فقوله تعالى:
{ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} البقرة: ١٩٤
إيجاز، وقد جاء بسطه في قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ} المائدة: ٤٥
وهذا الكلام على طوله يعد موجزا إذا قيس إذا قولك في مثل معناه: "من قتل نفسا قتل بها، ومن فقأ عينا فقئت عينه، ومن جدع أنفا جدع أنفه، ومن جدع أذنا جدعت أذنه، ومن كسر سنا كسرت سنه ... وإن شئت زدت: واليد باليد، والأصبع بالأصبع، والآمة بالآمة والموضحة بالموضحة وهلم جرا. وقوله تعالى:
{آمَنَّا بِاللَّـهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ} المائدة: ٥٩
جاء معناه مبسوطا في قوله: { آمَنَّا بِاللَّـهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ} البقرة: ١٣٦
وهذا المعنى يؤدى عادة بقولك:
آمنا بالله وبالقرآن الذي أنزله الله إلينا، وبالتوراة التي أنزلها الله على موسى، وبالإنجيل الذي أنزله الله على عيسى، وبالزبور الذي آتاه الله لداود، وبالصحف التي آتاها الله لإبراهيم ولو شئت عددت الأسباط سبطا سبطا،
وذكرت سائر من قص الله علينا من النبيين في غير هذا الموضع بل لو شاء الله لقص علينا من أنباء سائر الرسل ما لم يقصه علينا.
والقوم معترفون ضمنا بوجود هاتين المرتبتين في كلام العوام، إذ قالوا:
إن مرتبتي الاختصار المخل والتطويل الممل ليستا من البلاغة في شيء فإذا لم تكونا من كلام البلغاء كانتا البتة من كلام غير البلغاء وإلا فكلام من تكونان؟! وإذا فلا تصلح المعاني الأولية ولا العبارات العامية مقياسا منضبطا للوسط المفروض.
وقد نشأ من قياسهم التوسط بالمقدار الذي تؤدى به المعاني الأولية في لسان العوام -بعد تسليم كونه وسطا- أن جعلوا الفضيلة البيانية في هذا الباب ماثلة أبدا طرف النقص أو طرف الزيادة.
وذلك عكس ما بنيت عليه قاعدة الفضائل من تبوئها مكانا وسطا بين الأطراف "ولقد تعجب إذا رأيتهم يرجعون فيدخلون المساواة في كلام الرجل البليغ إذا دعاه إليها داع، كأن يكون كلامه مع العامة ثم تزداد عجبا إذا رأيتهم يدخلونها في القرآن نفسه،
وهو ما علمت خطاب للعامة وللخاصة على السواء، ويمثلونها بقوله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ } فاطر: ٤٣
على أن في هذه الكلمة إيجازا بالحذف على اصطلاحهم نفسه، إذ المعنى لا يحيق ضرر المكر وعاقبته".
لهذا كله رأينا أن نضع التقسيم وضعا آخر نرد فيه الفضيلة إلى نصابها من الحد الوسط، ونرجع فيه الذم إلى الطرفين، وذلك يجعل المقياس هو المقدار الذي يؤدى به المعنى بأكمله، بأصله وحليته على حسب ما يدعو إليه المقام من إجمال أو تفصيل؛ بغير إجحاف ولا إسراف.
هذا القدر الذي من نقص عنه أو زاد عده البلغاء حائدا عن الجادة بقدر ما نقص أو زاد، هو الميزان الصحيح الذي لك أن تسمي طرفيه بحق تقصيرا أو تطويلا، وأن تسميه هو بالمساواة أو القصد أو التوسط أو التقدير أو ما شئت فسمه.
ونحن قد سميناه أيضا باسم "الإيجاز" مطمئنين إلى صحة هذه التسمية، إذ رأينا حد الإيجاز ينطبق عليه، فما الإيجاز إلا السرعة والتخفيف في بلوغ الحاجة بالقدر الممكن،
فالذي يسرع فوق الطاقة لا يبلغك حاجتك فيكون مجحفا مخلا، والذي يبطئ حيث تمكن السرعة لا يكون إلا مسرفا مملا. ورأينا الناس ما زالوا يتواصدون بهذه الوجازة في البيان ويجعلون خير الكلام ما قبل ودل،=