ومن تتبع أنواع المجادلات التي حكاها القرآن عن الطاعنين فيه رأى أن نسبتهم القرآن إلى تعليم البشر كانت هي أقل الكلمات دورانا على ألسنتهم، وأن أكثرهاورودا في جدلهم هي نسبته إلى نفس1 صاحبه،
على اضطرابهم في تحديد تلك الحال النفسية التي صدر عنها القرآن: أشعر هي، أم جنون، أم أضغاث أحلام..
فانظر: كم قلبوا من وجوه الرأي في هذه المسألة؛ حتى إنهم لم يقفوا عند الحدود التي يمكن افتراضها في كلام رصين كالقرآن، وفي عقل رصين كعقل صاحبه، بل ذهبوا إلى أبعد الأحوال النفسية التي يمكن أن يصدر عنها كلام العقلاء والمجانين..
إن ذلك لمن أوضح الأدلة على أنهم لم يكونوا يشيرون بهذا الوجه أو ذاك إلى تهمة محققة لها مثار في الخارج أو في اعتقادهم، وإنما أرادوا أن يدلوا بكل الفروض والتقادير مغمضين على ما فيها من محال وناب ونافر،
ليثيروا بها غبارا من الأوهام في عيون المتطلعين إلى ضوء الحقيقة، وليلقوا بها أشواكا من الشك في طريق السائرين إلى روض اليقين.
1 وهذا الرأي هو الذي يروجه الملحدون اليوم باسم "الوحي النفسي" زاعمين أنهم بهذه التسمية قد جاءونا برأي علمي جديد، وما هو بجديد، وإنما هو الرأي الجاهلي القديم، لا يختلف عنه في جملته ولا في تقصيله.
فقد صوروا النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلا ذا خيال واسع وإحساس عميق، فهو إذا شاعر. ثم زادوا فجعلوا وجدانه يطغى كثيرا على حواسه حتى يخيل إليه أنه يرى ويسمع شخصا يكلمه، وما ذاك الذي يراه ويسمعه إلا صورة أخيلته ووجداناته، فهو إذا الجنون أو أضغاث الأحلام.
على أنهم لم يطيقوا الثبات طويلا على هذه التعليلات، فقد اضطروا أن يهجروا كلمة "الوحي النفسي" حينما بدا لهم في القرآن جانب الأخبار الماضية والمستقبلة، فقالوا: لعله تلقفها من أفواه العلماء في أسفاره للتجارة، فهو إذا قد علمه بشر.
فاي جديد ترى في هذا كله؟ أليس كله حديثا معادا يضاهئون به قول جهال قريش؟ وهكذا كان الإلحاد في ثوبه الجديد صورة منسوخة بل ممسوخة منه في أقدم أثوابه،
وكان غذاء هذه الأفكار المتحضرة في العصر الحديث مستمدا من فتات الموائد التي تركتها تلك القلوب المتحجرة في عصور الجاهلية الأولى
{كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ۘ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ۗ} البقرة: ١١٨
وإن تعجب فعجب قولهم مع هذا كله أنه كان صادقا أمينا. وأنه كان معذورا في نسبة رؤاه إلى الوحي الإلهي؛ لأن أحلامه القوية صورتها له وحيا إلهيا، فما شهد إلا بما علم، وهكذا حكى الله لنا عن أسلافهم حيث يقول:
{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّـهِ يَجْحَدُونَ} الأنعام: ٣٣
فإن كان هذا عذره في تصوير رؤاه وسماعه فما عذره في دعواه أنه لم يكن يعلم تلك الأنباء لا هو ولا قومه من قبل هذا، بينما هو قد سمعها بزعمهم من قبل؟
فليقولوا إذا: إنه افتراء ليتم لهم بذلك محاكاة كل الأقاويل. ولكنهم لا يريدون أن يقولوا هذه الكلمة لأنهم يدعون الإنصاف والتعقل. ألا فقد قالوها من حيث لا يشعرون.
تلك الآراء، وأنهم كانوا كلما وضعوا يدهم على رأي منها وأرادوا أن ينسجوا منه للقرآن ثوبا وجدوه نابيا عنه في ذوقهم، غير صالح لأن يكون لبوسا له، فيفزعون من فورهم إلى تجربة رأي ثان، فإذا هو ليس بأمثل قياسا مما رفضوه، فيعمدون إلى تجربة ثالثة..
وهكذا دواليك ما يستقرون على حال من القلق. فإن شئت أن تطلع على هذه الصورة المضحكة من البلبلة الجدلية فاقرأ وصفها في القرآن:
{بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} الأنبياء: ٥
فهذه الجملة القصيرة تمثل لك بما فيها من توالي حروف الإضراب مقدار ما أصابهم من الحيرة والاضطراب في رأيهم، وتريك من خلالها صورة شاهد الزور إذا شعر بحرج موقفه:
كيف يتقلب ذات اليمين وذات الشمال. وكيف تتفرق به السبل في تصحيح ما يحاوله من محال
{انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلً} الإسراء: ٤٨
البحث في ظروف الوحي وملابساته الخاصة عن مصدر القرآن:
الآن: وقد جاوزنا بك هاتين المرحلتين من البحث، وأريناك أنه لا يوجد للقرآن مصدر إنساني، لا في نفس صاحبه ولا عند أحد من البشر، وأن كل من حاول أن يجعل هذا القرآن "عملا إنسانيا" أعياه أمره،
وأقام الحجة على فشله باضطرابه ولجاجته، وإحالته ومكابرته -فقد وجب علينا أن ننتقل إلى المرحلة الثالثة لنبحث عن ذلك المصدر في أفق خارج من هذا الأفق الإنساني جملة؛
وألا نقف بالقرآن حيث وقف به الملحدون قديما وحديثا مذبذبين فيهن بين هذين الطرفين يأخذون بأحدهما تارة، وبالثاني تارة، وبهما مجتمعين تارة أخرى، متنقلين هكذا من فاسد إلى فاسد، إلى مركب منهما أشد فسادا من كليهما.
كلا، فإن العقل يقضي علينا أن نبطل ما أبطله البرهان غير مكابرين، وأن نتابعه في سيره حتى نصل إلى الحق المبين.
أما هؤلاء الملحدون فإنهم ما قعد بهم عن متابعة البحث -زعموا- إلا رعايتهم لحرمة السنن الكونية، ومحافظتهم على الأسباب العادية التي يصدر عنها كلام الناس في معقولهم ومنقولهم؛
فقد أبى عليهم وفاؤهم لهذه العلوم الطبيعية أن يقتحموا حدودها ويخرجوا إلى التماس شيء لا تناله أعينهم، ولم يجربوا مثاله في أنفسهم، وأنت قد عرفت أن هذا الذي ظنوه وفاء بطبيعة الأشياء قد انقلب بهم إلى ضده؛ إذ خرقوا في سبيله السياج الطبيعي للعقل الإنساني وللواقع التاريخي،
فجمعوا المتناقضات وغيروا معالم التاريخ، وأرهقوا طبائع الأشياء فحملوها ما لا تطيق. فأي عاقل يرضى أن يقف موقفا كهذا ينصر فيه عادته بإهدار عقله!!
بل الحق أن هناك مانعا آخر يعقوه عن متابعة السير معنا، ولكنهم يكتمونه عنا: كبر في صدورهم أن يعطوا مقادتهم لإنسان جاءهم من فوق رءوسهم يزعم أنه رسول الله إليهم، فيأمرهم وينهاهم ويستوجب الطاعة عليهم،
ثم هو على ذلك يواجههم بالحقائق المرة، فيحول بينهم وبين ماض هم به مستمسكون، وهوى هم له عابدون
{بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} المؤمنون: ٧٠
فلنذرهم قاعدين حيث رضوا لأنفسهم القعود. ولنتابع البحث عن هذا الحق راغبين إلى الله في الهدى إليه، وإنا إن شاء لله لمهتدون.
ظاهرة الوحي وتحليل عوراضها:
لا تحسبن أننا في هذه المرحلة الثالثة سنضرب في بيداء تيهاء، أو أننا سيترامى بنا السير إلى شقة بعيدة وسفر غير قاصد. كلا، فلن نخرج ببحثنا عن دائرة محدودة نراها مظنة للسر الذي نطلبه،
وذلك بدراسة الأحوال المباشرة التي كان يظهر فيها القرآن على لسان محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله. وكلنا نعرف تلك الظاهرة العجيبة التي كانت تبدو على وجهه الكريم في كل مرة حين ينزل عليه القرآن، وكان أمرها لا يخفى على أحد ممن ينظر إليه.
فكانوا يرونه قد احمر وجهه فجأة وأخذته البرحاء حتى يتفصد جبينه عرقا، وثقل جسمه حتى يكاد يرض فخذه فخذ الجالس إلى جانبه وحتى لو كان راكبا لبركت به راحلته،
وكانوا مع ذلك يسمعون عند وجهه أصواتا مختلطة تشبه دوي1 النحل2.. ثم لا يلبث أن تسرى عنه تلك الشدة فإذا هو يتلو قرآنا جديدا محدثا.
فمن شاء أن يبحث عن مصدر هذا القرآن، فها هنا أقرب مظانه، ففيها فليحصر الباحثون بحوثهم، ولينشد طلاب الحق ضالتهم،
وأين تلتمس الأسباب الصحيحة لأثر ما إن لم تلتمس حيث يظهر ذلك الأثر، وحيث يدور وجوده وعدمه؟ فلننظر الآن في هذه الظاهرة:
هل كانت شيئا متكلفا مصنوعا وطريقة تحضيرية يستجمع بها الفكر والروية؟ أم كانت أمرا لا دخل فيه للاختيار؟ وإذا كانت أمرا غير اختياري فهل كان لها في داخل النفس منشأ من الأسباب الطبيعية العادية، كباعثة النوم، أو من الأسباب الطبيعية الشاذة، كاختلال القوى العصبية؟ أم كانت انفعالا بسبب خارجي منفصل عن قوى النفس؟
وإن نظرة واحدة نلقيها على عناصر هذه الظاهرة لتهدينا إلى أنها لا يمكن أن تكون صناعة وتكلفا، وبخاصة لو تأملت تلك الأصوات المختلطة التي كانت تسمع عند الوجه النبوي الشريف.
هذه الأوصاف كلها ثابتة في الأحاديث الصحيحة عن الشيخين وأبي داود والترمذي وغيرهم. ورواه الترمذي عن عمر بن الخطاب، ك/ تفسير القرآن، ب/ ومن سورة المؤمنون "3097".
وأيضا لو كانت صناعة وتكلفا لكانت طوع يمينه فكان لا يشاء يوما أن يأتي بقرآن جديد إلا جاء به من هذا الطريق الذي اعتاده في تحضيره.وقد علمت أنه كثيرا ما التمسه في أشد أوقات الحاجة إليه، وكان لا يظفر به إلا حين يشاء الله.فهي إذا حال غير اختيارية.
ثم إننا نرجع البصر كرة أخرى فنرى البعد شاسعا بينها وبين عارض السبات الطبيعي الذي يعتري المرء في وقت حاجته إلى النوم؛
فإنها كانت تعروه قائما أو قاعدا، وسائرا أو راكبا، وبكرة أو عشيا، وفي أثناء حديثه مع أصحابه أو أعدائه، وكان تعروه فجأة وتزول عنه فجأة، وتنقضي في لحظات يسيرة،
لا بالتدريج الذي يعرض للوسنان، وكانت تصاحبها تلك الأصوات الغريبة التي لا تسمع منه ولا غيره عند النوم. وبالإجمال كانت حالا تباين حال النائم في أوضاعها وأوقاتها وأشكالها وجملة مظاهرها.فهي إذا عارض غير عادي.
ثم نرى المباينة التامة والمناقضة الكلية بينها وبين تلك الأعراض المرضية والنوبات العصبية التي تصفر فيها الوجوه، وتبرد الأطراف، وتصطك الأسنان، وتتكشف العورات، ويحتجب نور العقل، ويخيم ظلام الجهل؛
لأنها كانت كما علمت مبعث نمو في قوة البدن، وإشراق في اللون، وارتفاع في درجة الحرارة، وكانت إلى جانب ذلك مبعث نور لا ظلمة، ومصدر علم لا جهالة، بل كان يجيء معها من العلم والنور ما تخضع العقول لحكمته، وتتضاءل الأنوار عند طلعته.
ها نحن أولاء قد كدنا نصل.. فلتقف بنا وقفة يسيرة لنرى مبعث هذا الضوء الذي كان يبدو حينا ويختفي أحيانا من حيث لا يد لصاحبه في ظهوره ولا في اختفائه:
هل عسى أن يكون منبعثا من طبيعة هذه النفس المحمدية؟ ..
إذا والله لكان خليقا أن ينبعث منها أبدا ولكان أحق بأن ينبعث منها في حال اليقظة العادية والروية الفكرية أكثر مما ينبعث منها في تلك اللحظات اليسيرة حينما تغشيها هذه السحابة الرقيقة التي قد تشبه السنة أو الإغماء.
فلا بد إذا أن يكون وراء هذه السحابة مصدر نوراني يمد هذه النفس المحمدية بين آن وآن، فيسمو بها عن أفق شعورها المحدود، ويزودها بما شاء الله من العلوم، ثم يرسلها إلينا محملة بهذه الشحنة العلمية إلى أن يلاقيها مرة أخرى.
وكما آمن الناس بأن نور القمر ليس مستفادا من ذاته، وإنما هو مستفاد من ضياء الشمس؛ لأنهم رأوا اختلاف نوره تابعا أبدا لاختلاف مواقعه منها قربا وبعدا، فكذلك فليؤمنوا بأن نور هذا القمر النبوي إنما كان شعاعا منعكسا من ضوء تلك الشمس التي يرون آثارها وإن كانوا لا يرونها.
نعم إنهم لم يروها بأعينهم طالعة في رابعة النهار. ولم يسمعوا صوتها بآذانهم جرسا مفهوما وكلاما يفقهه الناس؛ ولكنهم كانوا يرون قبسا منها في الجبين، وكانوا يسمعون حسيسا حول الوجه الكريم.
وإن في ذلك لهدى للمهتدين. هي إذا قوة خارجية؛ لأنها لا تتصل بهذه النفس المحمدية إلا حينا بعد حين. وهي لا محالة قوة عالمة؛ لأنها توحي إليه علما.وهي قوة أعلى من قوته؛ لأنها تحدث في نفسه وفي بدنه تلك الآثار العظيمة
(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ ﴿٥﴾ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ ﴿٦﴾) النجم :5 -6
وهي قوة خيرة معصومة، لأنها لا توحي إلا الحق ولا تأمر إلا بالرشد. فلا جرم أنها لا تكون قوة طائشة شريرة كقوة الجن والشياطين؛ إذ ما للجن وعلم الغيب ولقد
{تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} سبإ: ١٤
وما للشيطان وخبر السماء وهي محفوظة من كل شيطان رجيم
(وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ﴿٢١٠﴾ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ﴿٢١١﴾ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ﴿٢١٢﴾) الشعراء:210 - 212
بل نقول: "أليست الأرواح جنودا مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف"2. أو ليس المرء يعرف بقرينه، وشبه الشيء ينجذب إليه؟ فكيف تأتلف تلك الأرواح الخبيثة وذلك القلب النقي الطهور؟ أم كيف تأتلف تلك القوى الطائشة وهذا العقل الكامل الرصين؟
(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ﴿٢٢١﴾ تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴿٢٢٢﴾ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ﴿٢٢٣﴾) الشعراء:221 -223
فماذا عسى أن تكون هذه القوة إن لم تكن قوة ملك كريم؟ ذلك هو مبلغ العلم في وصف هذه القوة الغيبية حسبما يهدي إليه البحث العقلي المستقيم. وليس بالمؤمن المقتصد حاجة إلى أكثر من هذا القدر في إرضاء شهوته العلمية، ولا في تثبيت عقيدته الدينية.
فمن شاء المزيد من وصفها وحليتها فليس سبيله الرجوع إلى دلالات العقول، وإنما سبيله الرجوع إلى النقل الصحيح عن مهبط سرها ومظهر نورها -صلى الله عليه وسلم-
فهو وحده الذي يستطيع أن يتحدث عن صاحب هذا السر حديث شاهد العيان الذي رأى شخصه وسمع صوته، بل حديث التلميذ الذي جلس إلى أستاذه غير مرة.
فأما الذي يؤمن بالغيب فسيؤمن بهذا الحديث عنه وإن لم يره؛ لأنه رأى أثره، ولأنه يؤمن بمن أخبره.
وأما الجاهلون الذي أوتوا قليلا من علم ظاهر الحياة فظنوا أنهم أحاطوا بكل شيء علما فإنهم سيكذبون بكل ما لم يحيطوا بعلمه، وسيقولون لك: لعله اضطراب في أعصاب البصر خيل إليه أنه يرى شيئا من لا شيء! وأنت فاستعذ بالله من عمى القلوب والعيون، وقل: كلا
{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } النجم: ١٧
أو يقولون: لعله اضطراب في قوى الفكر صور له المعاني أشباحا ماثلة، والأحلام حقائق مجسمة، فابرأ إلى الله من هذا الجنون، وقل: كلا
{ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } النجم: ١١
نعم؛ لقد عجبوا أن يكون إنسان يرى الملائكة عيانا ويكلمهم جهارا. بل عجبوا أن يكون في الدنيا خلق لا يرونه بأعينهم، وصوت لا يسمعونه بآذانهم.
. فقالوا: كيف يرى محمد -صلى الله عليه وسلم- ما لا نرى، ويسمع ما لا نسمع!ولعمري؛ لنحن أحق أن نعجب من هذا العجب؛ فإننا نفهم أنه لو ساغ مثله في عصور الجاهلية الأولى ما كان ليسوغ اليوم وقد ملئت الأرض بالآيات العلمية التي تفسر لعقولنا تلك الحقائق الغيبية.
استئناس بما كشفه العلم في العصور الحاضرة:
إن من أقرب هذه الآات إلى متناول الجمهور آية الهاتف "التليفون". فقد أصبح الرجلان يكون أحدهما في أقصى المشرق والآخر في أقصى المغرب، ثم يتخاطبان ويتراءيان،
من حيث لا يرى الجالسون في مجلس التخاطب شيئا، ولا يسمعون إلا أزيزا كدوي النحل الذي في صفة الوحي. فإن كانوا يريدون آية علمية أوضح من هذا تمثل لهم الوحي تمثيلا، وتريهم من طريق التجارب -التي لا يؤمنون إلا بها-
أن اتصال النفس الإنسانية بقوة أعلى منها قد يحدث فيها ظاهرة من جنس هذه الظاهرة، وينقش فيها معلومات لم تكن مخزونة في العقل ولا في الحس قبل ذلك، فها قد أراهم الله تلك الآية العجيبة في "أعجوبة التنويم المغناطيسي"
فقد أصبح الرجل القوي الإرادة يستطيع أن يتسلط بقوة إرادته على من هو أضعف منه حتى يجعله ينام بأمره نوما عميقا لا يشعر فيه بوخز الإبر، وهناك يكون رهين إشارته، وتنمحي إرادته في إرادته:
فلو شاء أن يمحو من نفسه رأيا أو عقيدة لمحاها بكلمة واحدة، بل لو شاء أن يمحو من صدره اسم نفسه1
ويلقنه اسما آخر يقنعه بأنه هو اسمه لما وجد منه إلا إيمانا وتسليما، ولأصبح اسمه الحقيقي نسيا منسيا، ولبقي هذا الاسم المصنوع منقوشا على قلبه ولسانه بعد أن يستيقظ إلى ما شاء الله، فإذا كان فعل هذا الإنسان بالإنسان فما ظنك بمن هو أشد منه قوة؟
فذلك مثل2 حامل الوحي ومتلقيه -عليهما السلام- هذا بشر مطواع ذو روح صاف يقبل انطباع العلوم فيه، وذاك ملك شديد القوي ذو مرة يحمل إليه رسالته ويقرئها إياه، فلا ينسى إلا ما شاء الله.
بيد أن بعدا شاسعا بين هذا الوحي النبوي، ووحي الناس بعضه لبعض، فالناس كما عرفت قد يوحون زخرف القول غرورا، وكثيرا ما ترك وحيهم في نفس متلقيه أعراضا عقلية أو بدنية يصعب علاجها.
فأين هذا من الوحي بين رسولين مؤيدين اصطفاهما الله لرسالته: رسول الله من الملائكة، ورسول من الناس؟
فأما الرسول الملكي فإنه كما علمت لا يوحي إلا الحق، ولا يأمر إلا بالخير، وأما الرسول البشري فإنه لا يزال من بعد كما كان من قبل، ثابت الفؤاد كامل العقل قوي النفس والبدن
{اللَّـهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ۗ } الأنعام: ١٢٤
1 حوادث التنويم المغناطيسي وآثارها البدنية والنفسية أكثر من أن تحصى، ولكننا أشرنا بهذا المثال إلى واقعة كان شاهد العيان فيها فاضل من علماء الأزهر "الأستاذ محمد عبد العظيم الزرقاني"
وهو الذي فطن منها إلى هذه العبرة الدينية ونشرها بمجلة الهداية الإسلامية في شهر ربيع الأول من هذا العام "1352هـ".
2 تأمل هذا التقريب تجد فيه آية أخرى على بطلان دعوى "الوحي النفسي" التي يروجها الملحدون؛ إذ إنه من الأركان الأساسية التي أجمع عليها علماء التنويم أنه إنما يكون بين نفسين مختلفتي الطبائع؛ إحداهما أقوى إرادة من الأخرى،
فلا يستطيع امرؤ أن يقوم بهذه التجربة في نفسه إلا إذا فرضنا اجتماع النقيضين أو أن يكون الواحد اثنين.