الفصل التاسع / سر زيادة الكاف في قوله تعالى: {ليس كمثله شيء}

سر زيادة الكاف في قوله تعالى: {ليس كمثله شيء}

اقرأ المزيد

"أكثر" أهل العلم قد ترادفت كلمتهم على زيادة الكاف بل على وجوب زيادتها في هذه الجملة، فرارا من المحال العقلي الذي يفضي إليه بقاؤها على معناها الأصلي من التشبيه؛

إذ رأوا أنها حينئذ تكون نافية الشبيه عن مثل الله، فتكون تسليما بثبوت المثل

1 قرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله تعالى:

{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ } ابراهيم: ٢٤

وقال "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم. فحدثوني ما هي؟ "

فخفي على القوم علمها وجعلوا يذكرون أنواعا من شجر البادية، وفهم ابن عمر أنها النخلة، وكان عاشر عشرة هو أحدثهم سنا، وفيهم أبو بكر وعمر، فقال -صلى الله عليه وسلم: "هي النخلة". الحديث رواه الشيخان.

وفي القرآن

{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ } الأنبياء: ٧٩

له سبحانه، أو على الأقل محتملة لثبوته وانتفائه؛ لأن السالبة -كما يقول علماء المنطق- تصدق بعدم الموضوع.

أو1 لأن النفي -كما يقول علماء النحو- قد يوجه إلى المقيد وقيده جميعا. تقول:

"ليس لفلان ولد يعاونه" إذا لم يكن له ولد قط أو كان له ولد ولا يعاونه. وتقول: "ليس محمد أخا لعلي" إذا كان أخا لغير علي أو لم يكن أخا لأحد.

"وقليل منهم" من ذهب إلى أنه لا باس ببقائها على أصلها؛ إذ رأى أنها لا تؤدي إلى ذلك المحال لا نصا ولا احتمالا؛ لأن نفي مثل المثل يتبعه في العقل نفي المثل أيضا

وذلك أنه لو كان هناك مثل الله لكان لهذا المثل مثل قطعا وهو الإله الحق نفسه، فإن كل متماثلين يعد كلاهما مثلا لصاحبه، وإذا لا يتم انتفاء مثل المثل إلا بانتفاء المثل وهو المطلوب.

وقصارى هذا التوجيه -لو تأملته- أنه مصحح لا مرجح، أي أنه ينفي الضرر عن هذا الحرف، ولكنه لا يثبت فائدته ولا يبين مسيس الحاجة إليه؛ ألست ترى أن مؤدي الكلام معه كمؤداه بدونه سواء، وأنه إن كان قد ازداد به شيئا فإنما ازداد شيئا من التكلف والدوران وضربا من التعمية والتعقيد.

وهل سبيله إلا سبيل الذي أراد أن يقول:

"هذا فلان" فقال: "هذا ابن أخت خالة فلان"؟ فمآله إذا إلى القول بالزيادة التي يسترونها باسم التأكيد، ذلك الاسم الذي لا تعرف له مسمى ها هنا؛ فإن تأكيد المماثلة ليس مقصودا البتة، وتأكيد النفي بحرف يدل على التشبيه هو من الإحالة بمكان.

ولو رجعت إلى نفسك قليلا لرأيت هذا الحرف في موقعه محتفظا بقوة دلالته، قائما

1 هذا الترديد مبني على اختبار مضمون الجملة أو منطوقها؛ فعلى الأول يقع المثل موضوعا؛ لأنها في قوة قولنا: "مثل ليس له مثل". وعلى الثاني يبقى في المحمول؛ لأنه واقع في خبر ليس.

بقسط جليل من المعنى المقصود في جملته، وأنه لو سقط منها لسقطت معه دعامة المعنى، أو لتهدم ركن من أركانه، ونحن نبين لك هذا من طريقين، أحدهما أدق مسلكا من الآخر:

"الطريق الأول" -وهو أدنى الطريقين إلى فهم الجمهور: أنه لو قيل: "ليس مثله شيء" لكان نفيا للمثل المكافئ، وهو المثل التام المماثلة فحسب؛ إذ إن هذا المعنى الذي ينساق إليه الفهم من لفظ المثل عند إطلاقه.

وإذا لدب إلى النفس دبيب الوساوس والأوهام: أن لعل هنالك رتبة لا تضارع رتبة الألوهية ولكنها تليها، وأن عسى أن تكون هذه المنزلة للملائكة والأنبياء، أو للكواكب وقوى الطبيعة، أو للجن والأوثان والكهان،

فيكون لهم بالإله الحق شبه ما في قدرته أو علمه، وشرك ما في خلقه أو أمره.. فكان وضع هذا الحرف في الكلام إقصاء للعالم كله عن المماثلة وعما يشبه المماثلة وما يدنو منها، كأنه قيل:

ليس هناك شيء يشبه أن يكون مثلا لله، فضلا عن أن يكون مثلا له على الحقيقة. وهذا باب من التنبيه بالأدنى على الأعلى، على حد قوله تعالى:

{ فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} الإسراء: ٢٣

نهيا عن يسير الأذى صريحا، وعما فوق اليسير بطريق الأحرى.

الطريق الثاني" -وهو أدقهما مسلكا: أن المقصود الأولي من هذه الجملة وهو نفي الشبيه، وإن كان يكفي لأدائه أن يقال:

"ليس كالله شيء" أو "ليس مثله شيء" لكن هذا القدر ليس هو كل ما ترمي إليه الآية الكريمة، بل إنها كما تريد أن تعطيك هذا الحكم تريد في الوقت نفسه أن تلفتك إلى وجه حجته وطريق برهانه العقلي.

ألا ترى أنك إذا أردت أن تنفي عن امرئ نقيصة في خلقه فقلت: "فلان لا يكذب ولا يبخل" أخرجت كلامك عنه مخرج الدعوى المجردة عن دليلها. فإذا زدت فيه

كلمة فقلت: "مثل فلان لا يكذب ولا يبخل" لم تكن بذلك مشيرا إلى شخص آخر يماثله مبرأ من تلك النقائص،

بل كان هذا تبرئة له هو ببرهان كلي، وهو أن من يكون على مثل صفاته وشيمه الكريمة لا يكون كذلك؛ لوجود التنافي بين طبيعة هذه الصفات وبين ذلك النقص الموهوم.

على هذا المنهج البليغ وضعت الآية الحكيمة قائلة: "مثله تعالى لا يكون له مثل".

تعني أن من كانت له تلك الصفات الحسنى وذلك المثل الأعلى لا يمكن أن يكون له شبيه، ولا يتسع الوجود لاثنين من جنسه. فلا جرم جيء فيها بلفظين، كل واحد منهما يؤدي معنى المماثلة؛ ليقوم أحدهما ركنا في الدعوى، والآخر دعامة لها وبرهانا.

فالتشبيه المدلول عليه "بالكاف" لما تصوب إليه النفي تأدى به أصل التوحيد المطلوب؛ ولفظ "المثل" المصرح به في مقام لفظ الجلالة أو ضميره نبه على برهان ذلك المطلوب.

واعلم أن البرهان الذي ترشد إليه الآية على هذا الوجه برهان طريف في إثبات وحدة الصانع، لا نعلم أحدا من علماء الكلام حام حوله؛ فكل براهينهم في الوحدانية قائمة على إبطال التعدد بإبطال لوازمه وآثاره العملية. حسبما أرشد إليه قوله تعالى:

{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّـهُ لَفَسَدَتَا ۚ } الأنبياء: ٢٢

ونحن نلخص لك هنا وجوه استدلالهم في نسق واحد، لتتبين أنها كلها قائمة على أساس المعنى المستنبط من هذه الآية،

وهو أن تعدد الآلهة المستجمعة لشرائط الإلهية يقتضي "إما" عدم وجود شيء من المخلوقات، وذلك هو فسادها في آن الإيجاد "وإما" وجودها على وجه التفاوت والاختلاف المؤدي إلى فسادها غب الإيجاد.

ذلك أنه "لو" توجهت إرادة الإلهين إلى شيء واحد لتعذر عليهما إحداثه، لاستحالة صدور أثر واحد عن مؤثرين. والقول بصدوره عن قدرة أحدهما مع استوائهما في القدرة وفي توجه القصد ترجيح بلا مرجح.

و"لو" توجهت إرادة أحدهما إلى شيء وإرادة الآخر إلى نقيضه لم يمكن إحداثهما، وإلا لاجتمع النقيضان. وإحداث أحدهما دون الآخر يلزمه الرجحان المذكور.

و"لو" توجهت إرادة أحدهما إلى بعض الخلق والآخر إلى بعضه، إذا لذهب كل إله بما خلق، ولكان هنا عالمان مختلفا النظام، فلا يلبث أن يطغى بعضها على بعض حتى يتماحقا. وكل أولئك=

أما آية الشورى المذكورة فإنها ناظرة إلى معنى وراء ذلك ينقض فرض التعدد من أساسه، ويقرر استحالته الذاتية في نفسه بقطع النظر عن تلك الآثار. فكأننا بها تقول لنا:

إن حقيقة الإله ليست من تلك الحقائق التي تقبل التعدد والاشتراك والتماثل في مفهومها، كلا، فإن الذي يقبل ذلك إنما هو الكمال الإضافي في الناقص،

أما الكمال التام المطلق الذي هو قوام معنى الإلهية، فإن حقيقته تأبى على العقل أن يقبل فيها المشابهة والاثنينية؛ لأنك مهما حققت معنى الإلهية حققت تقدما على كل شيء وإنشاء لكل شيء:

{فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } الأنعام: ١٤

وحققت سلطانا على كل شيء وعلوا فوق كل شيء:

{ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ } الزمر: ٦٣

فلو ذهبت تفترض اثنين يشتركان في هذه الصفات لتناقضت؛ إذ تجعل كل واحد منهما سابقا مسبوقا، ومنشئا منشأ. ومستعليا مستعلى عليه.

أو لأحلت الكمال المطلق إلى كمال مقيد فيهما؛ إذ تجعل كل واحد منهما بالإضافة إلى صاحبه ليس سابقا ولا مستعليا. فأنى يكون كل منهما إلها، وللإله المثل الأعلى؟!

أرأيت كم أفدنا من هذه "الكاف" وجوها من المعاني كلها شاف كاف؟

فاحفظ هذا المثال وتعرف به دقة الميزان الذي وضع عليه النظم الحكيم حرفا حرفا.

القسم الثالث

الإيجاز بالحذف مع الوضوح والطلاوة

سر الإيجاز في القرآن لا يقف عند الحد الذي أشرنا إليه، من اجتناب الحشو والفضول بتة.

القسم الثالث