نظرات في لب البيان القرآني وخصائصه التي امتاز بها عن سائر الكلام:
فإذا أنت لم يلهك جمال العطاء عما تحته من الكنز الدفين، ولم تحجبك بهجة الأستار عما وراءها من السر المصون، بل فليت القشرة عن لبها، وكشفت الصدفة عن درها، فنفذت من هذا النظام اللفظي إلى ذلك النظام المعنوي، تجلى لك ما هو أبهى وأبهر، ولقيك منه ما هو أروع وأبدع.
لا نريد أن نحدثك ها هنا عن معاني القرآن وما حوته من العلوم الخارجة عن متناول البشر، فإن لهذا الحديث موضعا يجيء -إن شاء الله تعالى- في بحث "الإعجاز العلمي" وحديثنا كما ترى لا يزال في شأن "الإعجاز اللغوي" وإنما اللغة ألفاظ.
بيد أن هذه الألفاظ ينظر فيها تارة من حيث هي أبنية صوتية مادتها الحروف وصورتها الحركات والسكنات من غير نظر إلى دلالتها.
وهذه الناحية قد مضى لنا القول فيها آنفا، وتارة من حيث هي أداءة لتصوير المعاني ونقلها من نفس المتكلم إلى نفس المخاطب بها، وهذه هي الناحية التي سنعالجها الآن، ولا شك أنها هي أعظم الناحيتين أثرا في الإعجاز اللغوي الذي نحن بصدده؛ إذ اللغات تتفاضل من حيث هي بيان؛ أكثر من تفاضلها من حيث هي أجراس وأنغام.
أما النظر في المعاني القرآنية من جهة ما فيها من العلوم العجيبة فتلك خطوة أخرى ونظرة خارجة عن البحث اللغوي جملة؛ إذ الفضيلة البيانية إنما تعتمد دقة التصوير وإجادة التعبير عن المعنى كما هو، سواء عندها أن يكون ذلك المعنى من جنس ما تناوله عقول الناس أو لا يكون،
بل سواء عندها أن يكون ذلك المعنى من جنس ما تتناوله عقول الناس أو لا يكون، بل سواء عندها أن يكون ذلك المعنى حقيقة أو خيالا؛ وأن يكون هدى أو ضلالا1؛ عكس الفضيلة العلمية، فإنها عائدة إلى المعنى في نفسه على أي صورة أخرجته، وبأي لغة عبرت عنه.
نعم، قد تتفاوت اللغات في الوفاء بحثق المعنى، فيكون التعبير الجيد مما يزيد في قيمته
1 ولذلك كانت حكايات القرآن لأقوال المبطلين لا تقصر في بلاغتها عن سائر كلامه؛ لأنها تصف ما في أنفسهم على أتم وجه.
العلمية، لكن النظر ها هنا في قيمة البيان لا في قيمة المبين فلا تعجل علينا بتلك النظرة العلمية حتى نفرغ من هذه النظرة اللغوية.
والآن فلنبدأ وصفنا لبعض خصائص القرآن البيانية، ولنرتبها على أربع مراتب:
- القرآن في قطعة قطعة1 منه.
- القرآن في سورة سورة منه.
- القرآن فيما بين بعض السور وبعض.
- القرآن في جملته.
1 نريد منها ما يؤدي معنى تاما، كالذي يؤدى عادة في بضع آيات. وقد يؤدى في آية طويلة، أو سورة قصيرة. وهو الحد الأدنى الذي تنزل إليه التحدي أخيرا إذ قال:
{فَأْتُوا بِسُورَةٍ } البقرة: ٢٣
ولم يقل بسورة من طواله أو أوساطه، بل أطلق إطلاقا، فتناول ذلك سور المفصل الذي كان قد نزل أكثره بمكة -قبل أن ينزل هذا التحدي الأخير- حتى سورة العصر والكوثر.
وبعض الناس -كذا نقله الألوسي في مقدمة كتابه روح المعاني عن قائل مجهول- يذهب إلى أن التحدي لم يقع بمطلق سورة، بل بسورة "تبلغ مبلغا يتبين فيه رتب ذوي البلاغة" كأنه رأى أن هذه الرتب لا تتبين في مقدار ثلاث آيات مثلا.
وهذا وإن لم يكن قادحا في إعجاز القرآن، ولا مبطلا لحجته "إذ يكفي ثبوت إعجازه، ولو في قدر سورة البقرة، أو سورة يونس، أو سورة هود، أو سورة الإسراء، أو سورة الطور. وهي السور التي ورد فيها ذكر التحدي"
إلا أننا نحسب أن صاحب هذا القول حين ذهب إليه إنما ظن ظنا لم يستيقنه، واستبعد استبعادا أن تكون هذه السور القصار معجزة في بيانها؛ لأنه لم يدرك غرابة في نظمها، فلم يفقه سر هذا الإعجاز فيها.
ولكن هلا جعل ذلك حجة على قلة بضاعته في هذه الصناعة، ولم يجعل جهله بقيمتها حجة على عدم إعجازه.
فالنجم تستصغر الأبصار رؤيته ... والذنب للطرف لا للنجم في الصغر وهلا فكر أن العرب الذين قامت الحجة بعجزهم قد استوت قدرتهم أمام طواله وقصاره فلم يعارضوا هذه ولا تلك، فهذا وحده حاسم لشبهته إن كان يكفيه البرهان، فإذا أراد العيان قيل له:
اعمد إلى واحدة من تلك السور فحصل معانيها في نفسك، ثم جئ لها بكلام من عندك، فسوف ترى أنك بين أمرين: إما ألا تؤديها على وجهها في مثل هذا القدر وبمثل هذا النظم، وإما أن تعيد عين ألفاظها. لا ثالث.
وحينذاك تبين أن سر الإعجاز في القصير من سور القرآن مثله في الطويل، كما أن سر الإعجاز في خلق النملة مثله في خلق الفيل.
عرف ذلك من عرفه، وجهله من جهله. قال ابن عطية رحمه الله: "ونحن تبين لنا البراعة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع، لقصورنا عن رتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة.