"وكلمة أخرى" تمس إليها حاجة الباحث في النسق إذا أقبل على تلك المناسبات الموضعية بين أجزاء السور:
وهي أن يعلم أن الصلة بين الجزء والجزء لا تعني اتحادهما أو تماثلهما أو تداخلهما أو ما إلى ذلك من الصلات الجنسية حسب، كما ظنه بعض الباحثين في المناسبات، فجعل فريق منهم يذهب في محاولة هذا النوع من الاتصال مذاهب من التكلف والتعسف.
وفريق آخر متى لم يجد هذه الصلة من وجه قريب أسرع إلى القول بأن في الموضع1 اقتضابا محضا؛ جريا على عادة العرب في الاقتضاب.
بل زعم بعضهم أن الاقتضاب هو الأصل في القرآن كله، نقل السيوطي في الإتقان في بحث المناسبة بين الآيات والسور؛ عن أبي العلاء محمد بن غانم أن القرآن إنما وقع على الاقتضاب الذي هو طريقة العرب من الانتقال إلى غير ملائم.
وكذلك نقل عن عز الدين بن عبد السلام أن النظر في مناسبة الآي لا يحسن إلا في القضية التي نزلت على سبب واحد، أما إذا اختلفت الأسباب فالربط بينها ضرب من التكلف؛
لأن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة لأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض ا. هـ. وقد خالفهما الأئمة ووهموهما.
ألا إن هذا الرأي بشعبتيه لأوغل في الخطأ من سابقه1، وإن الأخذ به على علاته في القرآن لغفلة شديد عن مستوى البلاغة التي تميز بها القرآن عن سائر الكلام.
فلو أن ذاهبا ذهب يمحو تلك الفوارق الطبيعية بين المعاني المختلفة التي ينتظمها القرآن في سورة منه إذا لجرده من أولى خصائصه، وهي أنه لا يسترسل في الحديث عن الجنس الواحد استرسالا يرده إلى الإطالة المملة. كيف وهو الحديث الذي لا يمل؟
ولو أنه -من أجل المحافظة على استقلال هذه المعاني- ذهب يفرقها، ويقطع أرحامها، ويزيل التداعي المعنوي والنظمي من بينها، إذا لجرده من خاصته الأخرى، وهي أنه لا ينتقل في حديثه انتقالا طفريا يخرجه إلى حد المفارقات الصبيانية التي تجمع شتى الأحاديث على غير نظام.
والتي لا تدع نفس السامع تستشرف إلى اختتام كلام وافتتاح كلام. كيف وهو القول الرصين المحكم؟
كلا، بل الحديث فيه كما علمت ذو شجون، ولكنه حين يجمع الأجناس المختلفة لا يدعها حتى يبرزها في صورة مؤتلفة، وحتى يجعل من اختلافها نفسه قواما لائتلافها.
وهذا التأليف بين المختلفات ما زال هو "العقدة" التي يطلب حلها في كل فن وصنعة جميلة،
وهو المقياس الدقيق الذي تقاس به مراتب البراعة ودقة الذوق في تلك الفنون والصناعات فإن تقويم النسق وتعديل المزاج بين الألوان والعناصر الكثيرة أصعب مراسا وأشد عناء منه في أجزاء اللون الواحد والعنصر الواحد.
وعلى هذه القاعدة ترى القرآن يعمد تارة إلى الأضداد يجاور بينها، فيخرج بذلك محاسنها ومساويها في أجلى مظاهرها، ويعمد تارة أخرى إلى الأمور المختلفة في
وهو تضييق دائرة البحث في المناسبات بالتماسها بين المعاني المتجاورة خاصة
فإذا أضيف إلى ذلك التزام طريق معين في المناسبة وهو أن تكون من قبيل التجانس المعنوي زادت المسألة ضيقا وحرجا؛ ولذلك أفضى هذا الرأي بأصحابه إلى أحد الطرفين المذمومين: التكلف أو الخروج.
أنفسها من غير تضاد فيجعلها تتعاون في أحكامها بسوق بعضها إلى بعض مساق التنظير أو التفريع، أو الاستشهاد أو الاستنباط، أو التكميل أو الاحتراس، إلى غير ذلك.
وربما جعل اقتران معنيين في الوقوع التاريخي، أو تجاور شيئين في الوضع المكاني، دعامة لاقترانهما في النظم، فيحسبه الجاهل بأسباب النزول وطبيعة المكان خروجا وما هو بخروج،
وإنما هو إجابة لحاجات النفوس التي تتداعى فيها تلك المعاني. فإن لم يكن بين المعنيين نسب ولا صهر بوجه من هذه الوجوه ونحوها، رأيته يتلطف في الانتقال من أحدهما إلى الآخر إما بحسن التخلص والتمهيد.
وإما بإمالة الصيغ التركيبية على وضع1 يتلاقى فيه المتباعدان، ويتصافح به المتناكران.
وهذه كلها وجوه حسنة لو نظر إليها بين آحاد المعاني لأغنى بعضها عن بعض في إقامة النسق.
ولقد يعرض في هذا الوجه اللغوي أسرارا دقيقة لو سئل المرء البيان عن وجه الحسن فيها لعجز عن وصفه، بل لو سئل أين موضع الوصل منها لصعب عليه تحديده بقاعدة علمية.
على أنه لو تناسى تلك الألقاب الاصطلاحية والأسئلة الفضولية وخلى نفسه ووجدانها ثم اتصل بهذه المواضع تلاوة أو استماعا لما شعر بينها بشيء من الخروج أو الانتقال ينبو عنه الذوق أو يتعثر فيه السمع، بل يحس بينها بروح الاتصال وحلاوة الانتقال من قبل أن يهتدي لناحية محدودة أو علة معينة.
ومن طالت مزاولته لأساليب الكلام وتذوقه لطعومه حتى رسخت فيه ملكة التمييز بين الجيد منه والرديء وجد من نفسه أهلية هذا الحكم، إن لم يكن على نحو من الاستدلال المنطقي، فعلى ضرب من الاستحسان الفقهي،
ولا سيما إن كان ممن بقيت في عروقهم قطرات من الدم العربي، وفي نفوسهم أثارة من الحاسة العربية، فمن أخطأه وجدان هذا الحسن الإجمالي في موضع ما من القرآن فلا يلومن إلا نفسه، ولا يعجلن بالحكم قبل أن يأخذ أهبته.
وليذكر دائما أنه بمقياس ما يجده نحو أسلوب القرآن من استحسان أو توقف إنما يختبر ما في مزاجه اللغوي من صحة أو اعتلال، وما في دراسته اللغوية من نقص أو كمال.
وأنه ليس بأذواق القاصرين من المولدين أمثاله تختبر لغة القرآن، كيف وقد درج أهلها الذين سجدوا لبلاغته. وكان فيهم الحكم الذي ترضى حكومته هذا.
ولكم وقف علم التشريح عن إدراك سر الخلق في بعض الأعضاء الباطنة لعدم الاهتداء لوظيفتها. فهل وسع أحدا من علماء التشريح إلهيين أو طبيعيين أن يحكموا بخلوها عن الحكمة والفائدة؟
كلا، فإنهم لما بهرتهم عجائب الصنعة في ستر أجزاء البدن لم يسعهم في القليل الذي جهلوه إلا أن يعترفوا على الجملة بأن له البتة حكمة لم يكشفها العلم، ثم لا يلبث أن يكشفها لمن أعانته همة البحث وأيده التوفيق.