الفصل العاشر / العجيبة الثالثة الكبرى التي خرجت بهذا التأليف القرآني عن طبيعة التأليف الإنساني

العجيبة الثالثة الكبرى التي خرجت بهذا التأليف القرآني عن طبيعة التأليف الإنساني

اقرأ المزيد

وسبب ثالث كان أجدر أن يزيد نظم السورة تفكيكا ووحدتها تمزيقا. ذلك هو الطريقة التي اتبعت في ضم نجوم القرآن بعضها إلى بعض، وفي تأليف وحدات السور من تلك النجوم.

وإنها لطريقة طريفة سنريك فيها العجيبة الثالثة الكبرى التي خرجت بهذا التأليف القرآني عن طبيعة التأليف الإنساني، فتعال وانظر!.

انظر إلى الإنسان حين يزاول صناعة ما من صناعاته التركيبية. ألا تراه يبدأ عمله دائما بتعرف أجزاء المركب ومقوماته، والوقوف على عناصره ومتمماته، قبل أن يبت الحكم في تحديد موقع كل جزء منها؟

هاتان مرحلتان تتنزل الثانية منهما منزلة الصورة من مادتها. فلا جرم أن عكس القضية فيهما لا يكون إلا سيرا بالعقل البشري في غير سبيله، وإدلاجا به في مزلة لا قرار للإقدام عليها، ولا هدى للسالك فيها.

وهل رأيت أحدا سلك هذه السبيل المؤتفكة، ثم استقام له الأمر عليها إلى نهايته1؟ بل انظر إلى الإنسان حين يأخذ في ترتيب أجزاء المركب بعد جمعها.

ألا تراه خاضعا لسنة السير الطبيعي التي يخضع لها كل سائر إلى غرض ما؛ حسي أو عقلي؟ فهو إن قطع سبيله خطوات لم يستطع أن يجتاز أخراها قبل أولاها، وإن صعد فيه درجات لم يستطع أن يؤخر أسفلها عن أعلاها.

تلك حدود رسمتها قوانين الفطرة العامة، فلا يستطيع أحد أن يتخطاها. سواء في صناعاته المادية أو المعنوية. فالبناء والحائك والكاتب والشاعر في هذه الحدود سواء.

ونضرب لك مثلا:

قدر في نفسك أن رجلا نزل واديا فسيحا ليس عليه بنيان قائم، وليس به شيء من مواد البناء وأنقاضه، فما لبث أن أحس برجفة أرضية أو عاصفة سماوية، وإذا قمة الجبل تنصدع قليلا فتلقي بجانبه صخرا أو بضعه صخور.. ثم تمضي فترة طويلة أو

نقول: هل رأيت عاقلا تعجل بالقضاء في تحديد الموقع لجزء من صنعته قبل أن يحيط بسائر أجزائها علما؟

وهل تراه لو فعل يكون قضاؤه في هذا الترتيب قضاء مبرما؟ ثم هل تراه لو أصر على هذا الترتيب يتم له ما يشتهي لصنعته من نظام محكم؟، كلا، إن العاقل لو قام بهذه التجربة في بعض الأجزاء نزولا على البديهة الحاضرة فإنما يتخذها تعلة وقتية،

ريثما يبدو له عنصر آخر أحق بهذه الرتبة أو تلك؛ ثم لا يلبث أن يعود إلى الأول ليقصيه عن مكانه قليلا أو كثيرا، أو ليفصله عن هذه المجموعة إلى مجموعة أخرى، أو ليجعله كلا قائما برأسه..

وهكذا لا يزال يقلب وجوه الرأي في نظام تلك المواد، حتى إذا ما فرغ منها جمعا وتحصيلا، وانكشفت له جملة وتفصيلا، فهنالك فقط يستطيع أن يقر كل جزء في مستقره الأخير، وأن يعطي المركب صيغته النهائية.

وكل ترتيب تأخذه الآحاد قبل ذلك فإنه لا يجمعها إلا تلفيقا، ولا يعطيها إلا صورة شوهاء، وكذلك كل نظام أقيم على غير أساس العلم المفصل بأجزاء المنظوم فأحرى به أن يكون مثالا للضعف والاختلال. وإن بقي اليوم قائما لم يلبث أن ينهار غدا.

قصيرة، وإذا هزة ثانية أو ثالثة تلقي إليه شظيات من الحديد والحمم، أو نثارات من الفضة والذهب.. أترى أن هذا الرجل أو أن أحدا من العقلاء يستطيع منذ اللحظات الأولى أن يضع تصميمه على إقامة مدينة جامعة من تلك المواد المتناثرة ومما عساه أن يجيء من أمثالها؟ وأن يبدأ بالعمل في مهمة التخطيط والبنيان؟

فما يدريه لعل هذه الظواهر لا تتكرر أمامه نزلة أخرى، ثم ما يدريه أنها إن عادت كم مرة تعود، وما نوع المادة التي تتساقط معها في كل مرة، وكم عدة القطع في كل مادة من هذه المواد، وكم عدة الأبنية التي يمكن إقامتها منها، وما النظام الهندسي الخاص بكل بناء: سعة وارتفاعا ونقشا وزخرفا، وما ذرع الفضاء الذي ستشغله هذه الأبنية جملة؟ ..

في هذا الجو المملوء غموضا وإبهاما لا يجرؤ عاقل أن يغامر بتصميمه في بناء كوخ حقير، فضلا عن بلد كبير، فضلا عن أن يهب من فوره لإنفاذ عزمه فيمضي في مهمة البناء منذ وصلت إليه تلك اللبنات الأولى.

ولئن افترضت إنسانا غامر هذه المغامرة، وأن المقادير سارت في هواه، وأسعفته بما شاء من مواد البناء الذي تخيله وتمناه، أتراه يعمد إلى مخاطرة أخرى؛ فيتخذ له في البناء أسلوبا يراغم به قانون الطبيعة،

بأن يؤلي على نفسه ألا يدع لبنة تصل إلى يديه إلا أنزلها -في ساعة وصولها- منزلها الخليق بها حيث كان؟ ذلك على حين أن تلك اللبنات لم تتساقط إليه متجانسة مرتبة على ترتيبها في وضعها المنتظر،

بل جعلت تتناثر خفافا وثقالا، مختلفا ألوانها وأحجامها وعناصرها وطاقاتها، فربما وقعت له الزخارف والشرفات، قبل أن تقع له بعض القواعد والمسافات، وربما وقعت له على التوالي أجزاء ناقصة لتوضع في أماكن متفرقة من أبنية متنائية،

أفلا تراه إن ذهب يضع كل جزء ساعة نزوله في موضعه المعين لم يجد مناصا من أن يبدد أجزاء البناء هنا وهنا على أبعاد غير متساوية ولا متناسبة، فيقارب بينها طورا ويباعد طورا، ويعلو بها تارة وينزل تارة أخرى، حتى لقد يبني أعلى البيت قبل أسفله، ويمسك المحمول معلقا بدون حامله.

فكيف يطيق بشر كائنا من كان أن يضطلع بهذه المهمة؟ ثم كيف يمضي قدما في هذا الأمر إلى نهايته، فلا يعود إلى جزء ما ليزيله عن موضعه الذي أحله فيه أول مرة، أو ليلتجئ فيه إلى نحت أو حشو أو دعامة؟

ثم كيف تكون عاقبة أمره أنه في الوقت الذي يضع فيه آخر لبنة على هذا المنهاج يرفع يده عن مدينة منسقة ليس فيها قصر ولا غرفة ولا لبنة ولا جزء صغير ولا كبير إلا وقد نزل منزله الرصين الذي يرتضيه ذوق الفن، حتى لو تبدل واحد منها مكان غيره لاختل البينان أو ساء النظام؟

أليس ذلك إن وقع يكون تحديا للقدرة البشرية جمعاء؟

ألا فقد وقع مصداق هذا المثل في مسألتنا. إليك البيان:

"أما" الرجل فهو هذا النبي الأمي -صلوات الله عليه وسلامه.

"وأما" المدينة الجامعة التي شرع في بنائها منذ وقعت له لبناتها الأولى فذلك الكتاب العزيز الذي أخذ هو منذ وصلت إليه باكورة رسائله يرتب أجزاءه ترتيب الواثق المطمئن إلى أنه سيكون له منها ديوان تام جامع.

"وأما" القصور، والغرفات، واللبنات، فهي أجزاء هذا الديوان: من السور، والنجوم، والآيات.

"وأما" تلك العوامل الفجائية التي جعلت تستنزل من مختلف معادن الجبال ما ركبت منه هذه القصور المشيدة فتلك هي الأحداث الكونية والاجتماعية، والمشاكل الدينية والدنيوية التي كانت تعترض الناس آنا بعد آن في شئونهم العامة والخاصة،

فكان يتقدم بها المؤمن منهم مستفتيا ومسترشدا، والمكذب مستشكلا ومجادلا، وكان على وفق ذلك يتنزل الكلام نجما فنجما، بمعان تختلف باختلاف تلك المناسبات والبواعث، وبمقادير تتفاوت قلة وكثرة، وعلى طرق تتنوع لينا وشدة..

ومن هذه النجوم المختلفة المتفرقة صارت تتألف تلك المجاميع المسماة بالسور، لا على أساس التجانس بين أجزاء كل مجموعة منها، بل على أن يأوى إلى الحظيرة الواحدة ما شئت من فصائل الجنس الواحد والأجناس المتخالفة.

"وأما" الطريق العجب الذي اتبع في تأليف تلك الأبنية من أجزائها -وهو السبب الثالث الذي رفع المسألة من حد العسر إلى حد الإحالة- فهو أن ذلك الذي نزل عليه الذكر لم يتربص بترتيب نجومه حتى كملت نزولا،

بل لم يتريث بتأليف سورة واحدة منه حتى تمت فصولا، بل كان كلما ألقيت آية أو آيات أمر بوضعها من فوره في مكان مرتب من سورة معينة.

على حين أن هذه الآيات والسور لم تتخذ في ورودها التنزيلي سبيلها الذي اتبعته في وضعها الترتيبي؛ فكم من سورة نزلت جميعا أو أشتاتا في الفترات بين النجوم من سورة أخرى، وكم من آية في السورة الواحدة تقدمت فيها نزولا وتأخرت ترتيبا، وكم من آية على عكس ذلك.

نعم، لقد كان للنجوم القرآنية في تنزيلها وترتيبها ظاهرتان مختلفتان، وسبيلان قلما يلتقيان، ولقد خلص لنا من بين اختلافهما أكبر العبر في أمر هذا النظر القرآني.

فلو أنك نظرت إلى هذه النجوم عند تنزيلها، ونظرت إلى ما مهد لها من أسبابها، فرأيت كل نجم رهينا بنزل حاجة ملمة، أو حدوث سبب عام أو خاص، إذا لرأيت في كل واحد منها ذكرا محدثا لوقته، وقولا مرتجلا عند باعثته، لم يتقدم للنفس شعور به قبل حدوث سببه.

ولرأيت فيه كذلك كلا قائما بنفسه لا يترسم نظاما معينا يجمعه وغيره في نسق واحد.

ولو أنك نظرت إليها في الوقت نفسه فرأيتها وقد أعد لكل نجم منها ساعة نزوله سياج خاص يأوي إليه سابقا أو لاحقا؛ وحدد له مكان معين في داخل ذلك السياج متقدما أو متأخرا1 إذا لرأيت من خلال هذا التوزيع الفوري المحدود أن هنالك خطة

فترى هذا النجم مثلا يؤمر به عند نزوله أن يوضع في ختام سورة كذا، والنجم الذي بعده يؤمر به أن يجعل في أثناء تلك السورة نفسها على رأس عدد محدود من آيها. وهذا يجعل صدرا لسورة تأتي بعد حين، والذي يليه يأخذ جانبا من سورة مضت منذ حين ... وهلم جرا.

تفصيلية شاملة قد رمست فيها مواقع النجوم كلها من قبل نزولها، بل من قبل أن تخلق أسبابها، بل من قبل أن تبدأ الأطوار الممهدة لحدوث أسبابها، وأن هذه الخطة التي رسمت على أدق الحدود والتفاصيل قد أبرمت بآكد العزم والتصميم:

فما من نجم وضع في سورة ما ثم جاوزها إلى غيرها، وما من نجم جعل في مكان من السورة آخرا أو أولا، ثم وجد عنه باد الدهر مصرفا أو متحولا.

وهنا تقف موقف الحيرة في أمرك، وتكاد تنكر ما تحت سمعك وبصرك، ثم ترجع إلى نفسك تسائلها عن وجه الجمع بين ما رأيت وما ترى:

"أليس هذا التنزيل قد سمعته الآن جديدا وليد يومه، ووحيدا رهين سببه؛ فما لي أراه ليس جديدا ولا وحيدا؟ لكأني به وبالقرآن كله كان ظاهرا على قلب هذا الرجل قبل ظهوره على لسانه، وكان على هذه الصورة مؤلفا في صدره قبل أن يؤلفه ببيانه.

وإلا فما باله يؤلف هذا التأليف بين آحاد لا تتداعى إلى الاجتماع بطبائعها؟ لماذا لم يذرها كما جاءت فرادى منثورة؟ وهلا إذ أراد جمعها أدخلها كلها في مجموعة واحدة؟

أو هلا قسمها إلى مجاميع متساوية أو متجانسة؟ ترى على أية قاعدة بني توزيعها وتحديد أوضاعها هكذا قبل تمامها أو تمام طائفة منها؟ هل عسى أن تكون هذه الأوضاع كلها جارية على محض المصادفة والاتفاق؟

كلا، فقد ظهر في كل وضع منها أنه مقصود إليه بعينه، كما ظهر القصد في كل طائفة أن تنتظم منها وحدة محدودة ذات ترتيب ومقدار بعينه..

أم هل عسى أن تكون هذه الأوضاع -وإن قصدت- ليست وليدة تقدير سابق، وإنما هي تجربة اختبارية أثمرتها فكرة وقتية؟ -كلا، فإن واضعها حين وضعها قد ضربها ضربة لازب، ثم لم يكر عليها بتبديل ولا تحويل. فعلام إذا بنى لك القصد وهذا التصميم؟ ".

ولن يكون الجوانب الذي تسمعه من نفسك لو أصاخت إلى بديهة العقل إلا أن نقول:

"إنه لا يجرؤ في قرارة الغيب على وضع هذه الخطة المفصلة المصممة إلا أحد اثنين: جاهل جاهل في حضيض الجهل؛ أو عالم عالم فوق أطوار العقل. لا ثالث.

"فأما" إن كان فرغ من نظام تأليفها وتركيبها من قبل أن يستحكم له العلم بأسباب ذلك ومقاصده وأدباره وعواقبه، وإنما بنى أمره على الظن والتحسس وعلى التخيل والتمني، فذلك امرؤ بلغت به الجرأة على نفسه أن أعلن ملك ما لا يملكه وادعى علم ما ستكشف الأيام عن جهله.

وما عليك إلا أن تتربص به قليلا لترى بطلان أمره وفساد صنعته، فهيهات أن يلد الجهل نظاما جاريا، وإحكاما باقيا.

"وأما" إن كان قد فصلها على علم وبصر، وأعطى كل جزء منها موقعه بميزان وقدر، فلا ريب أن سيكون نظاما مثال الإتقان وآية الجمال، ولكن واضعها إذا لا يمكن أن يكون هو هذا الإنسان؛ إلا أن يكون قد استمدها من أفق أعلى من أفق نفسه ومحيط أوسع من محيط علمه؛

إذ أنى للإنسان وهو هذا المحكوم بطبيعة الدهر أن يكون عليها متحكما؟ أم كيف يتهيأ له وهو في جهله العتيد بمقدمات عمله أن يكون بنتائجها التفصيلية عالما؟ أفيكون بالشيء الواحد جاهلا وعالما معا؟ أم يكون من وجه واحد حاكما ومحكوما معا؟

"وهل رأيت أو سمعت أن أحدا من الكتاب أو الشعراء استطاع في مفتتح حياته الأدبية أن يحصي كل ما سيجيء على لسانه من جيد الشعر أو النثر في المناسبات المتنوعة إلى آخر عهده بالدنيا،

وأن يضع من أول يوم منهاجا لديوانه المنتظر، يفصله تفصيلا لا يقنع فيه بتقدير أبوابه وفصوله حتى يقدر لكل باب عدة ما يحويه من خطاب أو قصيدة، ويحدد لكل واحد من هذين مكانا معلوما لا يستقدم عنه ولا يستأخر،

حتى إذا جاء عند داعيته رده إلى مكانه غير متلبث ولا متوقف، ثم ينجح في هذه التجربة نجاحا مطردا تنفذ فيه أحكامه وتتحقق به أحلامه، فيستقيم له النسق بين هذه المقطوعات كلها، من غير أن يقدم فيها شيئا أو يؤخر شيئا، ومن غير أن يزيد بينها أو ينقص شيئا.

"لعمري" لئن صح هذا الفرض في أحد من البشر لصح مثله في نبي القرآن -صلى الله عليه وسلم- ولكن الإنسان هو الإنسان. ومن لم يحط علما بما سيعترضه في دهره من بواعث القول وفنونه فهو عن الإحاطة بنصوص هذا القول أبعد، وهو عن الإحاطة بمراتب هذه النصوص أشد بعدا.

بل الإنسان حين تحفزه باعثة القول وترد إليه سانحته لا يعدو فيها إحدى خطتين: فهو "إما" أن يدعها كما هي سانحة منعزلة. وكذلك يفعل في أمثالها، حتى إذا بلغ الغاية رجع أدراجه فأخذ فيها جمعا وتفريقا، وتبويبا وترتيبا.

"وإما" أن يأخذ في ضم هذه النصوص، أولا على وفق ورودها الأول فالأول. أما الثالثة وهي أن يجعلها هكذا "عزين". ولا يزال يظاهر من قريب وبعيد، عن أيمانها وعن شمائلها وفي خلالها،

بهذه الطريقة المحددة، وبهذا الطريقة المشتتة المعقدة، على أن يجعل المكان الذي أحل كل سانحة فيه مكانا مسجلا لا تحول عنه ولا تزول.

ثم يطمع أن يخرج له بتلك الصنعة ديوان كامل التقسيم والتبويب، جيد التنسيق والترتيب، مترابط متماسك في جملته وتفصيله، كلمة كلمة وحرفا حرفا، فتلك أمنية لا يظفر المرء منها إلا بعكس ما تمنى".

القسم الثاني

إحكام البنيان القرآني وتماسكه

فانظر الآن استطاعت هذه الأسباب على تضافرها أن تنال شيئا من استقامة النظم في السور المؤلفة على هذا النهج؟

القسم الثاني