ولماذا لم يتخذ خصومه من هذه الحجة الواضحة سلاحا قاطعا لحجته مع شدة سعيهم في هدم دعواه، والتجائهم لأوهن الشبهات في تكذيبه، وقد كان هذا السلاح أقرب إليهم، وكان وحده أمضى في إبطال أمره من كل ما لجأوا إليه من مهاترة ومكابرة.
إن سكوت التاريخ عن ذلك كله حجة كافية على عدم وجوده؛ لأنه ليس من الهنات الهينات التي يتغاضى عنها الناس الواقفون لهذا الأمر بالمرصاد.
على أن التاريخ لم يسكت، بل نبأنا بما كان من أمر الرجلين: فقد حدثنا عن راهب الشام أنه لما رأى هذا الغلام رأى فيه من سيما النبوة الأخيرة وحليتها في الكتب الماضية ما أنطقه بتبشير عمه قائلا:
إن هذا الغلام سيكون له شأن عظيم. وحدثنا عن ورقة أنه لما سمع ما قصه عليه النبي من صفة الوحي وجد فيها من خصائص الناموس الذي نزل على موسى ما جعله يعترف بنبوته ويتمنى أن يعيش حتى يكون من أنصاره.
فمن عرف للتاريخ حرمته وآمن بوقائعه كما هي، كانت هذه الوقائع حجة لنا عليه، ومن لم يستح أن يزيد في التاريخ حرفا من عنده فيقول:
إن محمدا ضم السماع إلى اللقاء فليتقول ما يشاء، وليعلم أنه سوف يخرج لنا بهذه الزيادة تاريخا متناقضايكذب أوله آخره، وآخره أوله؛
إذ كيف يعقل أن رجلا رأى علامات النبوة في امرئ فبشره بها قبل وقوعها، أو آمن بها بعد وقوعها، تطاوعه نفسه أن يقف من صاحب هذه النبوة موقف المرشد المعلم!
فأين يذهبون؟!