الفصل الحادي عشر / المدخل إلى المقصد الثالث: في خمس عشرة آية "163- 177"
المدخل إلى المقصد الثالث: في خمس عشرة آية "163- 177"
اقرأ المزيد( وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ۖ لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَـٰنُ الرَّحِيمُ ﴿١٦٣﴾ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّـهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴿١٦٤﴾ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّـهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّـهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ ۗ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّـهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴿١٦٥﴾ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ﴿١٦٦﴾ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّـهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴿١٦٧﴾ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴿١٦٨﴾ إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّـهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿١٦٩﴾
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّـهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴿١٧٠﴾ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴿١٧١﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّـهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴿١٧٢﴾ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّـهِ ۖ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿١٧٣﴾ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّـهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۙ أُولَـٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّـهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿١٧٤﴾ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ۚ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴿١٧٥﴾ ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴿١٧٦﴾ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴿١٧٧﴾ )
نيف وعشر من الآيات الكريمة، هي بمثابة الدهليز بين الباب والدار يقطعها السائر في خطوات ثلاث:
"الخطوة الأولى" تقرير وحدة الخالق المعبود. "الخطوة الثانية" تقرير وحدة الآمر المطاع. "الخطوة الثالثة" فهرس إجمالي للأوامر والطاعات المطلوبة.
"الخطوة الأولى" تقرير وحدة الخالق المعبود:
لقد جاءت هذه الخطوة في أشد أوقات الحاجة إليها بين سابقها ولاحقها، فإن ما مضى من تعظيم أمر الكعبة والمقام والصفا المروة كان من شأنه أن يلقي في روع الحديث العهد بالإسلام معنى من معاني الوثنية الأولى في تعظيم الأحجار والمواد،
ولا سيما وهذه الأماكن المقدسة كانت يومئذ مباءة للأصنام والأنصاب من حولها ومن فوقها؛ فوجب ألا يترك هذا التعظيم دون تحديد وتقييد، وألا نترك هذه الخلجات النفسية دون دفع وإبعاد، حتى لا يبقى شك في أن قيام المصلين عند مقام إبراهيم وتوجيه وجوههم نحو الكعبة،
، وتمسح الطائفتين بأركانها، وطواف الحجاج والمعتمرين بين الصفا والمروة، كل أولئك لا يقصد به الإسلام توجيه القلوب إلى هذه الأحجار والآثار؛ تزلفا بعبادتها أو رجاء لرحمتها أو طلبا لشفاعتها،
وإنما يقصد تعظيم الإله الحق وامتثال أمره بعبادته في مواطن رحمته ومظان بركته التي تنزلت فيها على عباده الصالحين من قبل، ثم تجديد ذكرى أولئك الصالحين في النفوس، وتمكين محبتهم في القلوب،
باقتفاء آثارهم، والتأسي بحركاتهم وسكناتهم، حتى يتصل حاضر الأمة بماضيها، وحتى تنتظم منها أمة واحدة تدور حول محور واحد، وتتجه إلى مقصد واحد هو أعلى المقاصد وأسماها
{وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ۖ لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ}
أتدرون من هو ... ؟ إنه ليس الكعبة وليس الصفا والمروة، ليس إبراهيم ولا مقام إبراهيم، ولكنه
{الرَّحْمَـٰنُ الرَّحِيمُ }
الذي وسع كل شيء رحمة ونعمة
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.... لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} والذي بيده القوة كلها والبأس كله: لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّـهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ }
هذا من جانب المقصد الذي وقع الفراغ منه.
وأما من جانب المقصد الذي أقبلنا عليه فإن هذه الخطوة كانت أساسا وتقدمة لا بد منها قبل الشروع في تفصيل الأحكام العملية، لتكون توجيها للأنظار إلى الناحية التي ينبغي أن يتلقى منها الخطاب في شأن تلك الأحكام.
ذلك أن المرء إذا عرف له سيدا واحدا وأسلم وجهه إليه وجب ألا يصدر إلا عن أمره ولا يأخذ التشريع إلا من يده.
ومن كانت له أرباب متفرقون، وتنازعت فيه شركاء متشاكسون تقاضاه كل واحد منهم نصيبه من طاعته، وكثرت عليه مصادر الأمر المطاع.
فأمر للآباء والعشيرة، وأمر للعرف والعوائد الموروثة والمستحدثة، وأمر للسادة والكبراء، وأمر للشياطين والأهواء.. ولذلك عززها بالخطوة الثانية.
"الخطوة الثانية" تقرير وحدة الآمر المطاع:
وهي ركن عقيدة التوحيد في الإسلام، فكما أن من أصل التوحيد ألا تتخذ في عبادتك إلها من دون الرحمن الذي بيده الخلق والرزق والضر والنفع، كذلك من أصل التوحيد ألا تجعل لغيره حكما في سائر تصرفاتك،
بل تعتقد أن لا حكم إلا له، وأن بيده وحده الأمر والنهي والحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، ومن استحل حرامه أو حرم حلاله فقد كفر.
وكما أنه لا يليق أن يكون هو الخالق ويعبد غيره، والرازق ويشكر غيره، لا يليق أن يكون هو الحاكم ويطاع غيره.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ}.
ولقد سلك في تقرير هذه الوحدة التشريعية نحوا من مسلكه في تقرير وحدة الإلهية.
"فبدأها" بأن تعرف إلى الناس بنعمة الله الشاملة ورحمته الكاملة في سهولة الشريعة وملاءمتها للفطرة، إذ إنه في سعة الاختيار لم يحرم عليهم من الطعام إلا أربعة أشياء كلها رجس خبيث،
وأحل لهم ما وراء ذلك أن ينتفعوا بسائر ما في الأرض من الحلال الطيب، وفي ضيق الاضطرار جعل المحظورات كلها تنقلب مباحات مرفوعا عنها الحرج
{ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، وناهيك بهذا الأسلوب تليينا للقلوب وحملا لها على الخضوع لأمر هذا الرب الرءوف بعباده. أفمن يحل لكم الطيبات ويحرم عليكم الخبائث أحق أن يطاع، أم من {إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّـهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }
، أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع، أم من
{لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ } .
"ثم ختمها" بتعريفهم مبلغ غضبه وانتقامه ممن يكتم أمره ونهيه ويبدلهما بغير ما أمر ونهى ويأخذ على ذلك الرشا والسحت
{أُولَـٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّـهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
والناظر في منهج هذا التقرير إذا تأمل في وجه اختيار حديث المطاعم والمكاسب من بين ضروب الحلال والحرام يرى من لطائف موقعه هنا ما يعرف به أنه هو العروة الوثقى التي شد بها وثاق البيان، وسدت بها الفروج بين خطواته السابقة واللاحقة.
فهو من الوجهة العملية أحد تلك الفروع التي سينتقل إليها الحديث عما قريب، فذكره ها هنا يعد شعارا بقرب الشروع في المقصد الجديد، ثم هو من الجهة الاعتقادية يتصل اتصالا تاريخيا وثيقا بعقيدة التوحيد التي هو بصددها،
ذلك أن أهل الجاهلية من وثنيين وكتابيين لما اتبعوا خطوات الشيطان فأزلهم عن توحيد المعبود حتى اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله لم يطل عليهم الأمد حتى فتح لهم باب التشريك في التشريع بعد التشريك في العبادة.
فجعلوا يحرمون من الحرث والأنعام حلالها، ويحلون حرامها، بل جعلوا عند ذبح أنعامهم يهلون بها لغير الله -يهتفون بأسماء آلهتهم- ويستحلون طعمتها بذلك، فجمعوا فيها بين مقاصد ثلاث: المعصية، والبدعة، والشرك الأكبر.
كأن باب التحريم والتحليل في المطاعم والمكاسب كان هو من أول باب فتح في الجاهلية للتشريع بغير إذن الله، ولذلك كان هو أول باب سده القرآن بعد الشرك الأكبر.
فترى النهي عنه والنص عليه وبيان الحق فيه تاليا لذكر العقائد حتى في السور المكية كسورة الأنعام1، والأعراف، ويونس، والنحل، وغيرها.
ومما زاد موقعه هنا حسنا أن مجيئه في سياق ذكر التوحيد وقع عدلا لمجيء حكم القبلة في سياق ذكر ملة إبراهيم، فكلاهما فرع عظيم يتصل بأصل عظيم.
ألا ترى كيف ختم الكلام في شأنه بمثل ما ختم به هناك من وعد المعاندين
{الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا}
؟ أو لا ترى كيف أن الإسلام جعل مسألتي القبلة والذبائح كليهما من الشعائر التي يتميز بها المسلم من غيره.
كما يتميز بالشهادة والصلاة: "من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله ورسوله"2.
على أن بدعة التحريم بالرأي في هذا الباب لم تقتصر على الفئة الخارجة عن الملة، بل إن بعض المسلمين في عصر النبوة كادت تصيبهم عدوى الأمم قبلهم، إذ هموا أن يترهبوا،
ويحرموا على أنفسهم الطيبات من الطعام وغيره، لا تحريما لما أحل الله منها، بل زهادة فيها وحملا للنفس على الصبر عنها بضرب من النذر أو اليمن أو العزيمة المصممة.
فرد عليهم القرآن هذا الابتداع وأغلق بابه إغلاقا، حتى لا يكون مدرجة لما وراءه. ونبههم أن من قضية توحيدهم لله أن ينزلوا على حكمه فيما أحل لهم؛ قياما فيه بشريعة الشكر، كما نزلوا على حكمه فيما حرم عليهم قياما فيه بشريعة الصبر:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّـهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} .
1 قرأ في سورة الأنعام سبعا وعشرين آية أولها قوله:
{وَجَعَلُوا لِلَّـهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا } الآيات [136- 153]
وقوله:
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا الْأَدْنَىٰ} الأعراف: ١٦٩
وفي سورة يونس قوله:
(قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّـهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّـهُ أَذِنَ لَكُمْ ۖ أَمْ عَلَى اللَّـهِ تَفْتَرُونَ ﴿٥٩﴾ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّـهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّ اللَّـهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ﴿٦٠﴾ ) [الآيتين 59، 60]
وفي سورة النحل قوله:
{وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّـهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ } [الآية: 95] ،
وقوله:
(إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّـهِ بِهِ ۖ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿١١٥﴾ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـٰذَا حَلَالٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّـهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّـهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴿١١٦﴾) [الآيتين: 115، 116] .
2 رواه البخاري عن أنس بن مالك ك/ الصلاة، ب/ فضل استقبال القبلة يستقبل بأطراف رجليه "378". ورواه مسلم عن البراء ك/ الأضاحي، ب/ وقتها "3626 ".
فانظر كيف كان خطاب الناس عامة بهذا الأصل ولواحقه توطئة لخطاب المؤمنين خاصة به وبما يستلوه من الأحكام، كما أن خطاب الناس عامة بأركان الإسلام في صدر السورة كان توطئة لما تلاه من خطاب بني إسرائيل خاصة بدعوتهم إلى الدخول فيه قلبا وقالبا.
هي ترى أحسن من هذا النسق المتقابل المتعادل؟
والآن؛ وقد أخذت النفس أهبتها لتلقي سائر الأوامر والنواهي انظر كيف خطا إليها الخطوة الثالثة والأخيرة.
"الخطوة الأخيرة" إجمالي الشرائع الدينية:
وترى فيها عجائب من صنعة النسق:
1- انظر إلى حسن التخلص في ربطه بين المقصد القديم، والمقصد الجديد على وجه؛ به يتصلان لفظا، وبه ينفصلان حكما.. فهو في جمعها لفظا كأنه يضع إحدى قدميك عند آخر الماضي، وثانيتهما عند أول المستقبل.
ولكنه في تفريقها حكما بأداتي النفي والاستدراك كأنما يحول قدميك جميعا إلى الأمام:
{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ ...} . البقرة: ١٧٧
يقول: إن مسألة تعيين الأماكن والجهات في مظاهر العبادات -تلك المسألة التي أشغلت بال المخالفين والمؤالفين نقدا وردا- ليست هي كل ما يطلب الاشتغال به من أمر البر،
بل هي شعبة واحدة من جملة الشعب التي تشتمل عليها خصلة واحدة من جملة خصاله، وإنما البر كلمة جامعة لخصال الخير كلها؛ نظرية وعملية، في معاملة المخلوق، وعبادة الخالق، وتزكية الأخلاق، فبتلك الخصال جميعها فليشغل المؤمنون المصادقون.
2- ثم انظر إليه حين أقدم على تفصيل تلك الخصال كيف أنه لم يقبل عليها دفعة واحدة، بل يتدرج إليها في رفق ولين، فتقدم بكلمة فوق الإجمال ودون التفصيل هي بمثابة فهرس لقواعد الإيمان ولشرائع الإسلام
{وَلَـٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ}. البقرة: ١٧٧
3- وانظر إلى سرد قواعد الإيمان هنا كيف عدل بها عن ترتيبها المطبوع الذي راعاه في صدر السورة غير مرة، فتراه هنا يجمع بين الطرفين "الإيمان بالله واليوم الآخر" وختم بالواسطة "الإيمان بالملائكة والكتاب والنبيين"؛
ذلك لأن من هذه الوسائط تعرف الأحكام الشرعية، وعن يدها تؤخذ، فأخرها لتتصل بها تلك الأحكام؛ حتى لا يحول بين الأصل وفرعه حائل؛ ولذلك راعى ترتيب أركان هذه الواسطة فيما بينها.
فصدر بالملائكة وهم حملة الوحي، وثنى بالكتاب وهو الوحي المحمول، وثلث بالنبيين وهم مهبط الوحي. ومن هنا اتصل ببيان تلك الشرائع التي وصلت إلينا عن طريق النبوة.