"الكثرة" و"الوحدة":
هذا الذي حدثناك عنه من عظمة الثروة المعنوية في أسلوب القرآن على وجازة لفظه، يضاف إليه أمر آخر، هو زينة تلك الثروة وجمالها، ذلك هو تناسق أوضاعها، وائتلاف عناصرها، وأخذ بعضها بحجز بعض، حتى إنها لتنتظم منها وحدة محكمة لا انفصام لها.
وأنت قد تعرف أن الكلام في الشأن الواحد إذا ساء نظمه انحلت وحدة معناه، فتفرق من أجزائها ما كان مجتمعا، وانفصل ما كان متصلا؛ كما تتبدد الصورة الواحدة على المرآة إذا لم يكن سطحها مستويا، أليس الكلام هو مرآة المعنى؟
فلا بد إذا لإبراز تلك الوحدة الطبيعية "المعنوية" من إحكام هذه الوحدة الفنية "البيانية". وذلك بتمام التقريب بين أجزاء البيان والتأليف بين عناصره؛ حتى تتماسك وتتعانق أشد التماسك والتعانق.
ليس ذلك بالأمر الهين كما قد يظنه الجاهل بهذه الصناعة؛ بل هو مطلب كبير "يحتاج" مهارة وحذقا ولطف حس في اختيار أحسن المواقع لتلك الأجزاء:
أيها أحق أن يجعل أصلا أو تكميلا، وأيها أحق أن يبدأ به أو يختم أو يتبوأ مكانا وسطا؟ "ثم يحتاج" مثل ذلك في اختيار أحسن الطرق لمزجها بالإسناد أو بالتعليق، أو بالعطف، أو بغيرها، هذا كله بعد التلطف في اختيار تلك الأجزاء أنفسها،
والاطمئنان على صلة كل منها بروح المعنى، وأنها نقية من الحشو، قليلة الاستطراد، وأن أطرافها وأوساطها تستوي في تراميها إلى الغرض، ويستوي هو في استهدافه لها، كما تستوي أبعاد نقط الدائرة بالقياس إلى المركز، ويستوي هو بالقياس إلى كل منها.
تلك حال المعنى الواحد الذي تتصل أجزاؤه فيما بينها اتصالا طبيعيا.
فما ظنك بالمعاني المختلفة في جوهرها، المنفصلة بطبيعتها؟ كم من المهارة والحذق، بل كم من الاقتدار السحري يتطلبه التأليف بين أمزجتها الغريبة واتجاهاتها المتشعبة؟
حتى لا يكون الجمع بينها في الحديث كالجمع بين القلم والحذاء والمنشار والماء؛ بل حتى يكون لها مزاج واحد واتجاه واحد، وحتى يكون عن وحداتها الصغرى وحدة جامعة أخرى.
إنه من أجل عزة هذا المطلب نرى البلغاء وإن أحسنوا وأجادوا إلى حد ما في غرض غرض، كان منهم الخطأ والإساءة في نظم تلك الأغراض كلا أو جلا، "فالشعراء" حينما يجيئون في القصيدة الواحدة بمعان عدة،
أكثر ما يجيئون بها أشتاتا لا يلوي بعضها على بعض، وقليلا ما يهتدون إلى حسن التخلص من الغرض إلى الغرض، كما في الانتقال من النسيب إلى المدح.. "والكتاب" ربما استعانوا على سد تلك الثغرات باستعمال أدوت التنبيه أو الحديث عن النفس؛
كقولهم: ألا وإن - هذا ولكن - بقي علينا - نعود - ولننتقل - قلنا - وسنقول. . . هذا شأن الأغراض المختلفة إذا تناولها الكلام الواحد في المجلس الواحد.
فكيف لو قد جيء بها في ظروف مختلفة وأزمان متطاولة؟ ألا تكون الصلة فيها أشد انقطاعا، والهوة بينها أعظم اتساعا؟
فإن كنت قد أعجبك من القرآن نظام تأليفه البياني في القطعة منه، حيث الموضوع واحد بطبيعته، فهلم إلى النظر إلى السورة منه حيث الموضوعات شتى والظروف متفاوتة، لترى من هذا النظام ما هو أدخل في الإعجاب والإعجاز.
ألست تعلم أن ما امتاز به أسلوب القرآن من اجتناب سبيل الإطالة والتزام جانب الإيجاز -بقدر ما يتسع له جمال اللغة- قد جعله هو أكثر الكلام افتنانا،
نعني أكثره تناولا لشئون القول وأسرعه تنقلا بينها1، من وصف، إلى قصص، إلى تشريع، إلى جدل، إلى ضروب شتى، بل جعل الفن الواحد منه يتشعب إلى فنون، والشأن الواحد فيه تنطوي تحته شئون وشئون.
جمع الأحاديث المختلفة المعاني، المتباعدة الأزمنة المتنوعة الملابسات في حديث واحد مسترسل هو مظنة التفكك والاقتضاب ومظنة المفارقة والتفاوت:
أو لست تعلم أن القرآن -في جل أمره- ما كان ينزل بهذه المعاني المختلفة جملة
1 والأعجب أنه مع كونه أكثر الكلام افتنانا وتنويعا في الموضوعات، هو أكثره افتنانا وتلوينا في الأسلوب في الموضوع الواحد.
فهو لا يستمر طويلا على نمط واحد من التعبير، كما أنه لا يستمر طويلا على هدف واحد من المعاني، ألا تراه كما يتنقل في السورة الواحدة من معنى إلى معنى يتنقل في المعنى الواحد بين إنشاء وإخبار، وإظهار وإضمار، واسمية وفعلية، ومضي وحضور واستقبال وتكلم وغيبية وخطاب؛ إلى غير ذلك من طرق الأداء، على نحو من السرعة لا عهد لك بمثله ولا بما يقرب منه في كلام غيره قط.
ومع هذه التحولات السريعة المستمرة التي هي مظنة الاختلاج والاضطراب، بل مظنة الكبوة والعثار، في داخل الموضوع أو في الخروج منه، تراه لا يضطرب ولا يتعثر، بل يحتفظ بتلك الطبقة العليا من متانة النظم وجود السبك حتى يصوغ من هذه الأفانين الكثيرة منظرا مؤتلفا.
فأي امرئ حسن العربية وينظر في نظم القرآن هذه النظرة ثم لا يرى فيه من أثر القدرة الباهرة سرا من أسرار التحدي والإعجاز؟!
وأنت فقد تسمع بعض المبتدئين في تذوق جمال القرآن والبحث عن منابع جماله يتساءلون: ما سر تلك الحال النفسية التي يجدها تالي القرآن وسامعه من طراوة وتجدد في نشاطه مع كل مرحلة منه، حتى لا يعرف الملل مهما أمعن السير فيه؟
فنبئهم أن تلك الظاهرة العجيبة لها في القرآن منابع جمة قد أشير قبل إلى طرف منها "فيما تقدم لنا من الحديث عن خاصة القرآن الصوتية، ص109" وهذه الخاصة التي نشير إليها فيها منبع آخر أعمق وأغرز،
، غير أنه لا يقدرها حق قدرها إلا من نظر في كلام البلغاء ووقف على مبلغ افتنانهم في أساليبهم ومبلغ افتنانهم في أغراضهم، ثم جاء ليتدبر هاتين الناحيتين من نظم القرآن.
فهناك يرى نفسه أمام نهاية لم يجاوز البلغاء بدايتها، إذ يرى أنه لا ينتقل فيه من خطوة إلى خطوة إلا استعرض في الخطوة التالية من مذاهب المعنى وألوان الأسلوب جديدا إثر جديد. فكيف يعرف الملل سبيلا إلى قلبه مع دوام هذه النظرة والتجديد؟ كل امرئ يستطيع أن يجرب نفسه حين يطول به الوقوف أمام منظر واحد جميل، هل يجد لديه من هزة الاستحسان في هذا الاستمرار ما يجده لو اعترض سلسلة من المناظر الرائعة قد صنفت فيها ضروب من الفوائد والمتع، ثم جعلت تمر به منوعة في أبدع تنسيق وأحسن تقويم؟
اللهم، لا. فذلك كذلك.
واحدة، بل كان يتنزل بها آحادا مفرقة على حسب الوقائع والدواعي المتجددة، وأن هذا الانفصال الزماني بينها؛ والاختلاف الذاتي بين دواعيها، كان بطيبعته مستتبعا لانفصال الحديث عنها على ضرب من الاستقلال والاستئناف لا يدع بينها منزعا للتواصل والترابط؟
ألم يكن هذان السببان قوتين متظاهرتين على تفكيك وحدة الكلام وتقطيع أوصاله إذا أريد نظم طائفة من تلك الأحاديث في سلك واحد تحت اسم سورة واحدة؟
خذ بيدك بضعة متون كاملة من الحديث النبوي كان التحديث بها في أوقات مختلفة، وتناولت أغراضا متباينة؛ أو خذ من كلام من شئت من البلغاء بضعة أحاديث كذلك. وحاول أن تجيء بها سردا لتجعل منها حديثا واحدا.
من غير أن تزيد بينها شيئا أو تنقص شيئا. ثم انظر: كيف تتناكر معانيها وتتنافر مبانيها في الأسماع والأفهام! وكيف يبدو عليها من الترقيع والتلفيق والمفارقة ما لا يبدو على القول الواحد المسترسل!