1- ليس في القرآن كلمة مقحمة ولا حرف زائد زيادة معنوية:
دع عنك قول الذي يقول في بعض الكلمات القرآنية إنها "مقحمة" وفي بعض حروفه إنها "زائدة" زيادة معنوية.
ودع عنك قول الذي يستخف كلمة "التأكيد" فيرمي بها في كل موطن يظن فيه الزيادة، لا يبالي أن تكون تلك الزيادة فيها معنى المزيد عليه فتصلح لتأكيده أو لا تكون، ولا يبالي أن يكون بالموضع حاجة إلى هذا
حتى روي عن سيد البلغاء صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أنه قال لجرير بن عبد الله البجلي:
"يا جرير إذا قلت فأوجز، وإذا بلغت حاجتك فلا تتكلف" هكذا أحفظه، ولا يحضرني الآن تخرنجه، وما سمعنا أحدا يوصي بهذا الإطناب الذي عده المؤلفون فضيلة ثانية تقابل الإيجاز، وإنما هو إحدى شعبتيه: الاختصار المفهم أو الإطناب المفحم.
ولو سميناه فضيلة ثانية تقابله لخشينا أن تكون هذه المقابلة وحدها رخصة في التحليل من قيوده وتسامحا في الإكثار الذي جاء ذمه بكل لسان، حتى قال -صلى الله عليه وسلم:
" ... وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة أساوئكم أخلاقا الترثارون المتشدقون المتفيقهون" رواه أحمد وابن حبان وغيرهما عن أبي ثعلبة.فلا وربك إنما هي فضيلة واحدة تطلب من المتكلم في كل مقام، ويؤخذ بها في سعة التفصيل كما يؤخذ بها في ضيق الإجمال، بل لعلها في مقام التفصيل أكد طلبا وأصعب منالا.
فالكلام الطويل إن حوى كل جزء منه فائدة تمس إليها الحاجة في المواضع ولا يسهل أداء تلك القاعدة بأقل منه كان هو عين الإيجاز المطلوب، وإن أمكن أداء الأغراض فيه كاملة بحذف شء منه أو بإبداله بعبارة أخصر منه كان هو حشوا أو تطويلا معيبا.
والكلام القصير إن وفى بالمقاصد الأصلية والتكميلية المناسبة في الحال كان هو التوسط المطلوب، وإلا كان بترا أو تقصيرا معيبا.
وليس الإيجاز قاصرا على جانب الإجمال كما زعموا حتى بنوا عليه ما بنوا، وحتى أخرجوا منه مثل قوله تعالى:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ } البقرة: ١٦٤
وجعلوها من باب الإطناب بحجة أنه يمكن إيجازها بهذه العبارة:
"إن في ترجيح وقوع أي ممكن كان لا على وقوعه لآيات للعقلاء - مفتاح العلوم" وأنت فهل عهدت عربيا قط بليغا أو غير بليغ تكلم بهذا التعبير الفلسفي الجاف القلق الذي افترضه السكاكي مقياسا للمساواة في معنى الآية،
كلا، إنك لو رجعت إلى ما تكلم به الناس في آيات الله الكونية تفصيلا أو إجمالا لرأيت كلاما عربيا صحيحا أطول من هذا أو أقصر، ولرأيت الآية الكريمة هي أوجز كلاما وأحكم نظاما في بابها من التفصيل، كما أن قوله تعالى:
{ قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ } يونس: ١٠١
هو أوجز كلاما في بابه من الإجمال.
قلنا: إن فضيلة الإيجاز بمعناه الصحيح هو الوسط المعتدل، وهو الفضيلة الوحيدة التي تواصى بها البلغاء في كل مقام بحسبه، غير أنه ليس للإنسان ما تمنى،
فالمثل الكامل وإن تطاولت إليه أعناق الناس وتفاوتوا في طلبه قربا وبعدا، لا يستطيع أحد منهم أن يأتي على غايته، وإنما أتى عليها القرآن الحكيم، فهو المثل الأعلى في حسن الإيجاز، كيف لا وهو حد الإعجاز.
التأكيد أو لا حاجة له به.
أجل، دع عنك هذا وذاك، فإن الحكم في القرآن بهذا الضرب من الزيادة أو شبهها إنما هو ضرب من الجهل -مستورا أو مكشوفا- بدقة الميزان الذي وضع عليه أسلوب القرآن.
وخذ نفسك أنت بالغوص في طلب أسراره البيانية على ضوء هذا المصباح.
فإن عمي عليك وجه الحكمة في كلمة منه أو حرف فإياك أن تعجل كما يعجل هؤلاء الظانون؛ ولكن قل قولا سديدا هو أدنى إلى الأمانة والإنصاف. قل:
"الله أعلم بأسرار كلامه، ولا علم لنا إلا بتعليمه". ثم إياك أن تركن إلى راحة اليأس فتقعد عن استجلاء تلك الأسرار قائلا: أين أنا من فلان وفلان؟ .. كلا، فرب صغير مفضول قد فطن إلى ما لم يفطن له الكبير الفاضل.
ألا ترى إلى قصة ابن عمر في الأحجية المشهورة1؟ فجد في الطلب وقل: رب زدني علما، فعسى الله أن يفتح لك بابا من الفهم تكشف به شيئا مما عمي على غيرك.
والله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور. ولنضرب لك مثلا، قوله تعالى: {ليس كمثله شيء} 2.