على أن روعة النظم القرآني كما علمت لا تقوم دائما على حسن التجاور بين الآحاد، بل ربما تراه قد أتم طائفة من المعاني ثم عاد إلى طائفة أخرى تقابلها، فيكون حسن الموقع في التجاور بين الطائفتين موجبا لحسن المقابلة بين الأوائل من كل منهما، أو بين الأواخر كذلك لا بين الأول من هذه والآخر من تلك.
وملاك الأمر في ذلك أن تنظر إلى النظام المجموعي الذي وضعت عليه السورة كلها كما وصيناك به من قبل. ونحن ذاكرون لك الآن نموذجا منه لو وضعته نصب عينيك واحتذيته في سائر السور لكان ذلك نعم الدليل في دراستك. وبالله التوفيق.
نظام عقد المعاني في سورة البقرة إجمالا وتفصيلا:
اعلم أن هذه السورة على طولها تتألف وحدتها من: مقدمة، وأربعة مقاصد، وخاتمة. على هذا الترتيب:
"المقدمة" في التعريف بشان هذا القرآن1، وبيان أن ما فيه من الهداية قد بلغ حدا من الوضوح لا يتردد فيه ذو قلب سليم. وإنما يعرض عنه من لا قلب له، أو من كان في قلبه مرض.
"المقصد الأول" في دعوة الناس كافة إلى اعتناق الإسلام.
"المقصد الثاني" في دعوة أهل الكتاب دعوة خاصة إلى ترك باطلهم والدخول في هذا الدين الحق.
"المقصد الثالث" في عرض شرائع هذا الدين تفصيلا.
1 عرفت في رأس البحث الأول أن لفظ القرآن يطلق على كله وعلى بعضه، فالإشارة هنا يصح أن تتوجه إلى القرآن جملة، وأن تتوجه إلى سورة البقرة خاصة. وقد أردنا بقاءها على هذا الاحتمال اقتداء بالنصب الكريم:
{ ذَٰلِكَ الْكِتَابُ } البقرة: ٢
لأن الإشارة فيه على الاحتمال أيضا.
"المقصد الرابع" ذكر الوازع والنازع الديني الذي يبعث على ملازمة تلك الشرائع وينهى عن مخالفتها. "الخاتمة" في التعريف بالذين استجابوا لهذه الدعوة الشاملة لتلك المقاصد وبيان ما يرجى لهم في آجلهم وعاجلهم.