ولئن ظفرت بأحد وفق لتقريب تيك الغايتين إلى حد ما في جملة أو جملتين، فتربص به كيف يكون أمره بعد ذلك.
وانظر كيف يدركه الكلام والإعياء وفترة الطبع
الإنساني فينحل من عقدة كلامه ما كان وثيقا، ويذبل من زهرته ما كان غضا طريا، ثم لا يعود إلى قوته إلا في الشيء بعد الشيء، كما تصادف في التراب قطعة من التبر ها هنا وقطعة هنالك. فنقول:
هذا نفيس جيد، وهذا أنفس وأجود، وهذا هو واسطة العقد وبيت القصيد.
سل العلماء بنقد الشعر والكلام: "هل رأيتم قصيدة أو رسالة كلها أو جلها معنى ناصعا، ولفظا جامعا، ونظما رائعا"، لقد أجمعت كلمتهم على أن أبرع الشعراء لم يبلغوا مرتبة الإجادة إلا في أبيات محدودة، من قصائد معدودة، وكان لهم من وراء ذلك المتوسط والرديء، والغث والمستكره، وكذلك قالوا في الكتاب والخطباء، والأمر فيهم أبين.
فإن سرك أن ترى كيف تجتمع هاتان الغايتان على تمامهما بغير فترة ولا انقطاع، فانظر حيث شئت من القرآن، تجد بيانا قد قدر على حاجة النفس أحسن تقدير، فلا تحس فيه بتخمة الإسراف ولا بمخمصة التقتير، يؤدي لك من كل معنى صورة نقية وافية:
"نقية" لا يشوبها شيء مما هو غريب عنها، "وافية" لا يشذ عنها شيء من عناصرها الأصلية ولواحقها الكمالية، كل ذك في أوجز لفظ وأنقاه.
ففي كل جملة منه جهاز من أجهزة المعنى، وفي كل كلمة منه عضو من أعضائه، وفي كل حرف منه جزء بقدره، وفي أوضاع كلماته من جمله، وأوضاع جمله من آياته سر الحياة الذي ينتظم المعنى بأدائه.
وبالجملة ترى -كما يقول الباقلاني: "محاسن متوالية1، وبدائع تترا".