أسلوب القرآن هو ملتقى نهايات الفضيلة البيانية على تباعد ما بين أطرافها:
لسنا ندري والله ماذا نقول لك في أسلوب معجز في وصفه، كما هو معجز في نفسه؟ غير أننا نقول كلمة هي جملة القول فيه، وهي أنه "تلتقي عنده نهايات الفضيلة كلها على تباعد ما بين أطرفها".
هذه كلمة تحتاج تفسيرا طويلا يمتلئ به الصدر ولا ينطلق به اللسان، وكل ما سنحاوله أن نفسر لك جانبا منها بقدر الطاقة، غير أننا قبل أن نحدثك في هذا الجانب عن القرآن سنحدثك عن كلام الناس حديثا يفهمه كل من عالج صنعة البيان بنفسه، لتعرف من وجوه النقص ها هنا وجوه الكمال هناك، ومن أبواب العجز ها هنا أسباب الإعجاز هناك:
"القصد في اللفظ" و"الوفاء بحق المعنى":
نهايتان كل من حاول أن يجمع بينهما وقف منهما موقف الزوج بين ضرتين لا يستطيع أن يعدل بينهما دون ميل ما إلى إحداهما:
فالذي يعمد إلى ادخار لفظه وعدم الإنفاق منه إلا على حد الضرورة لا ينفك من أن يحيف على المعنى قليلا أو كثيرا، ذلك أنه إما أن يؤدي لك مراده جملة لا تفصيلا، فيكون سبيله سبيل من يقول في باب المحاجة:
"صدقوا، أو كذبوا" وفي باب الوصف "حسن، أو قبيح" وفي باب الإخبار: "كان أو لم يكن" وفي باب الطلب: "افعل، أو لا تفعل" لا زائد على ذلك.
وإما أن يذهب فيه إلى شيء من التفصيل، ولكنه إذ يأخذه الحذر من الإكثار والإسراف يبذل جهده في ضم أطرافه وحذف ما استطاع من أدوات التمهيد والتشويق، ووسائل التقريب والتثبيت، وما إلى ذلك مما تمس إليه حاجة النفس في البيان،
حتى يخرجه ثوبا متقلصا يقصر عن غايته، أو هيكلا من العظم لا يكسوه لحم ولا عصب، ورب حرف واحد ينقص من الكلام يذهب بمائه ورونقه، ويكشف شمس فصاحته، ورب اختصار يطوي الكلام طيا يزهق روحه ويعمي طريقه؛ ويرد إيجازه عيا وإلغازا.
والذي يعمد إلى الوفاء بحق المعنى وتحليله إلى عناصره؛ وإبراز كل دقائقه "بقدر ما يحيط به علمه وما يؤديه إليه إلهامه" لا يجد له بدا من أن يمد في نفسه مدا؛ لأنه لا يجد في القليل من اللفظ ما يشفي صدره، ويؤدي عن نفسه رسالتها كاملة.
فإذا أعطى نفسه حظها من ذلك لا يلبث أن يباعد ما بين أطراف كلامه، ويبطئ بك في الوصول إلى غايته، فتحس بقوة نشاطك وباعته إقبالك آخذتين في التضاؤل والاضمحلال.
عامة من نعرفهم من الفصحاء -قدامى ومحدثين- يؤتون من هذا الجانب غالبا، أعني جانب الإملال والإسراف، لا جانب الإخلال والإجحاف. وأكثرهم تجمع بهم شهوة البيان إلى أبعد من هذا الحد، فمنهم من يذهب إلى التكليف والتفصح باستعمال الغريب من المفردات والتراكيب، فيكلفك أن تبدي وتعيد وتقبل وتدبر حتى تهتدي إلى وجه مراده، وهكذا لا يزداد كلامه بالبسط إلا ضيقا عن الفهم.
ومنهم من يلقي حول المعنى ركاما من الحشو والفضول ينوء بحمله، أو يلبسه ثوبا فضفاضا من المترادف والمتقارب يتعثر في أذياله. يحسب أنه يوفي لك المعنى ويحدده، وفي الحق إنما ينشره ويبدده. ولعل أمثل هؤلاء طريقة من لو حذفت شطر كلامه لأغناك عنه ثاني شطريه.
ذلك على أن البلغاء مهما أوجفوا من ركابهم، ومهما أجلبوا بخيلهم ورجلهم لا يبلغ الواحد منهم بعمله غاية أمله، وإنما يصل كما قلنا إلى كمال نسبي "بقدر ما يحيط به علمه، وما يؤديه إليه إلهامه في الحال"
أما الوفاء بالمعنى حق وفائه بحيث لا يخطئه عنصر منه ولا حلية من حلاه ولا يتضاف إليه عرض غريب عنه يعد رقعة في ثوبه، ولا ينقلب فيه وضع من أوضاعه يغض من حسن تقويمه، وبحيث لا سبيل فيه إلى نقض أو اقتراح جديد؛ فذلك أمر لا يستطيع أن ينتحله رجل اكتوى بنار البيان، فضلا عن أن ينحله لإنسان غيره.
وآية ذلك أنك تراه حين تعقب كلام نفسه في الفينة بعد الفينة يجد فيه زائدا يمحوه، وناقصا يثبته؛ ويجد فيه ما يهذب ويبدل، وما يقدم أو يؤخر، حتى يسلك سبيله إلى النفس سويا.
ولعله لو رجع إليه سبعين1 مرة لكان له في كل مرة نظرة. وكلما كان أنفذ بصرا وأدق حسا، كان أقل من ذلك قناعة وأبعد هما؛ إذ يرى وراء جهده غاية هي المثل الأعلى الذي يطمح إليه ولا يطاوعه، والكمال البياني الذي يتعلق به خياله ولا يناله
{كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ۚ } الرعد: ١٤
- كما يروى عن زهير في تهذيب قصائده التي كان يسميها "الحوليات".
هذا حظ الكلام البليغ عند قائله، فما ظنك بناقديه ومنافسيه؟
هذا؛ وهو يعمد إلى غاية واحدة، فكيف لو عمد معها إلى الغاية الأخرى، وحاول أن يضع هذه الثروة المعنوية في لفظ قاصد؟ وأنى يكون له ذلك وهو سجين هذه الفطرة الإنسانية التي لا تقرب به من أحد طرفي الطريق إلا بمقدار ما تبعد به عن الطرف الآخر؟
ولئن ظفرت بأحد وفق لتقريب تيك الغايتين إلى حد ما في جملة أو جملتين، فتربص به كيف يكون أمره بعد ذلك.
وانظر كيف يدركه الكلام والإعياء وفترة الطبع الإنساني فينحل من عقدة كلامه ما كان وثيقا، ويذبل من زهرته ما كان غضا طريا، ثم لا يعود إلى قوته إلا في الشيء بعد الشيء، كما تصادف في التراب قطعة من التبر ها هنا وقطعة هنالك. فنقول:
هذا نفيس جيد، وهذا أنفس وأجود، وهذا هو واسطة العقد وبيت القصيد.
سل العلماء بنقد الشعر والكلام: "هل رأيتم قصيدة أو رسالة كلها أو جلها معنى ناصعا، ولفظا جامعا، ونظما رائعا"، لقد أجمعت كلمتهم على أن أبرع الشعراء لم يبلغوا مرتبة الإجادة إلا في أبيات محدودة، من قصائد معدودة، وكان لهم من وراء ذلك المتوسط والرديء، والغث والمستكره، وكذلك قالوا في الكتاب والخطباء، والأمر فيهم أبين.
فإن سرك أن ترى كيف تجتمع هاتان الغايتان على تمامهما بغير فترة ولا انقطاع، فانظر حيث شئت من القرآن، تجد بيانا قد قدر على حاجة النفس أحسن تقدير، فلا تحس فيه بتخمة الإسراف ولا بمخمصة التقتير، يؤدي لك من كل معنى صورة نقية وافية:
"نقية" لا يشوبها شيء مما هو غريب عنها، "وافية" لا يشذ عنها شيء من عناصرها الأصلية ولواحقها الكمالية، كل ذك في أوجز لفظ وأنقاه.
ففي كل جملة منه جهاز من أجهزة المعنى، وفي كل كلمة منه عضو من أعضائه، وفي كل حرف منه جزء بقدره، وفي أوضاع كلماته من جمله، وأوضاع جمله من آياته سر الحياة الذي ينتظم المعنى بأدائه.
وبالجملة ترى -كما يقول الباقلاني: "محاسن متوالية1، وبدائع تترا".
1 أصل الكلمة "تتوالى" هذا في كتاب إعجاز القرآن للباقلاني، ولكننا نقلناها بالمعنى، ولم ننقلها قصدا لإصلاح خطأ مشهور بين المبتدئين، إذ يظنون كلمة "تترا" فعلا مضارعا، وإنما هي اسم منصوب أصله وترا، أي متتابعا، ولا يخفى أن جعل القرينة الأولى فعلا مضارعا من شأنه أن يقرر هذا الوهم في نفس الطالب؛ فآثرنا تعديلها على هذا الوجه مع التنبيه على ذلك.
ضع يدك حيث شئت من المصحف، وعد ما أحصته كفك من الكلمات عدا، ثم أحص عدتها من أبلغ كلام تختاره خارجا1 عن الدفتين، وانظر نسبة ما حواه هذا الكلام من المعاني إلى ذاك.
ثم انظر: كم كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها من هذا الكلام دون إخلال بغرض قائله؟ وأية كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها هناك؟ فكتاب الله تعالى -كما يقول ابن عطية: "لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب لفظة أحسن منها لم توجد"2 بل هو كما وصفه الله
{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} هود: ١
"خطاب العامة" و"خطاب الخاصة":
وهاتان غايتان أخريان متباعدتان عند الناس، فلو أنك خاطبت الأذكياه بالواضح المكشوف الذي تخاطب به الأغبياء لنزلت بهم إلى مستوى لا يرضونه لأنفسهم في الخطاب، ولو أنك خاطبت العامة باللمحة والإشارة التي تخاطب بها الأذكياء لجئتهم من ذلك بما لا تطيقه عقولهم،
فلا غنى لك -إن أردت أن تعطي كلتا الطائفتين حظها كاملا من بيانك- أن تخاطب كل واحدة منها بغير ما تخاطب به الأخرى؛ كما تخاطب الأطفال بغير ما تخاطب به الرجال،
فأما أن جملة واحدة تلقى إلى العلماء والجهلاء، وإلى الأذكياء والأغبياء، وإلى السوقة والملوك فيراها كل منهم مقدرة على مقياس عقله وعلى وفق حاجته فذلك ما لا تجده على أتمه إلا في القرآن الكريم. فهو
- وكلام النبي -صلى الله عليه وسلم- وإن كان -لما أشربه من روح الوحي- أوجز وأفصح كلام تكلم به الناس، لا يبلغ في وجازته واكتنازه وامتلائه بتلك الثروة المعنوية معشار ما تجده من ذلك في القرآن الكريم.
- عن الإتقان.
- أول سورة هود "11"، وأنت فأنعم النظر في هذه الآية الكريمة تجدها قد جمعت كل ما بسطناه في هذا الفصل بكلمتي "الإحكام" و"التفصيل" وأي إحكام وتفصيل؟ إحكام من "حكيم" متقن لا خلل في صناعته، وتفصيل من "خبير" عالم بدقائق الأمور وتفاصيلها على ما هي عليه.
قرآن واحد يراه البلغاء أوفى كلام بلطائف التعبير، ويراه العامة أحسن كلام وأقربه إلى عقولهم لا يلتوي على أفهامهم، ولا يحتاجون فيه إلى ترجمان وراء وضع اللغة، فهو متعة العامة والخاصة على السواء، ميسر لكل من أراد
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } القمر: ١٧
"إقناع العقل" و"إمتاع العاطفة":
وفي النفس الإنسانية قوتان: قوة تفكير، وقوة وجدان، وحاجة كل واحدة منهما غير حاجة أختها.
فأما إحداهما فتنقب عن الحق لمعرفته، وعن الخير للعمل به، وأما الأخرى فتسجل إحساسها بما في الأشياء من لذة وألم، والبيان التام هو الذي يوفي لك هاتين الحاجتين ويطير إلى نفسك بهذين الجناحين، فيؤتيها حظها من الفائدة العقلية والمتعة الوجدانية معا.
فهل رأيت هذا التمام في كلام الناس؟
لقد عرفنا كلام العلماء والحكماء، وعرفنا كلام الأدباء والشعراء، فما وجدنا من هؤلاء ولا هؤلاء إلا غلوا في جانب، وقصورا في جانب. "فأما" الحكماء فإنما يؤدون إليك ثمار عقولهم غذاء لعقلك.
ولا تتوجه نفوسهم إلى استهواء نفسك واختلاب عاطفتك. فتراهم حين يقدمون إليك حقائق العلوم لا يأبهون لما فيها من جفاف وعري ونبو عن الطباع.
"وأما" الشعراء فإنما يسعون إلى استثارة وجدانك، وتحريك أوتار الشعور من نفسك، فلا يبالون بما صوروه لك أن يكون غيا أو رشدا؛ وأن يكون حقيقة أو تخيلا.
. فتراهم جادين وهم هازلون، يستبكون وإن كانوا لا يبكون، ويطربون وإن كانوا لا يطربون
( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ﴿٢٢٤﴾ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ﴿٢٢٥﴾ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ﴿٢٢٦﴾) الشعراء :224 - 226
وكل امرئ حين يفكر فإنما هو فيلسوف صغير. وكل امرئ حين يحس ويشعر فإنما هو شاعر صغير، فسل علماء النفس:
"هل رأيتم أحدا تتكافأ فيه قوة التفكير وقوة الوجدان وسائر القوى النفسية على سواء؟ ولو مالت هذه القوى إلى شيء من التعادل عند قليل من الناس فهل ترونها تعمل في النفس دفعة ونسبة واحدة؟ " يجيبوك بلسان واحدة: "كلا، بل لا تعمل إلا مناوبة في حال بعد حال، وكلما تسلطت واحدة منهن اضمحلت الأخرى وكاد ينمحي أثرها.
فالذي ينهمك في التفكير تتناقص قوة وجدانه، والذي يقع تحت تأثير لذة أو ألم يضعف تفكيره، وهكذا لا تقصد النفس الإنسانية إلى هاتين الغايتين قصدا واحدا، وإلا لكانت مقبلة مدبرة معا. وصدق الله:
{جَعَلَ اللَّـهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ۚ} الأحزاب: ٤
فكيف تطمع من إنسان في أن يهب لك هاتين الطلبتين على سواء، وهو لم يجمعهما في نفسه على سواء؟ وما كلام المتكلم إلا صورة الحال الغالبة عليه من بين تلك الأحوال.
هذا مقياس تستطيع أن تتبين به في كل لسان وقلم أي القوتين كان خاضعا لها حين قال أو كتب: "فإذا" رأيته يتجه إلى تقرير حقيقة نظرية أو وصف طريقة عملية قلت:
هذا ثمرة الفكرة. "وإذا" رأيته يعمد إلى تحريض النفس أو تنفيرها، وقبضها أو بسطها، واستثارة كوامن لذتها أو ألمها، قلت: هذا ثمرة العاطفة.
"وإذا" رأيته قد انتقل من أحد هذين الضربين إلى الآخر فتفرغ له بعد ما قضى وطره من سابقه، كما ينتقل من غرض إلى غرض، عرفت بذلك تعاقب التفكير والشعور على نفسه.
وأما أن أسلوبا واحدا يتجه اتجاها واحدا ويجمع في يديك هذين الطرفين معا، كما
يحمل الغصن الواحد من الشجرة أوراقا وأزهارا وأثمارا معا، أو كما يسري الروح في الجسد والماء في العود الأخضر، فذلك ما لا تظفر به في كلام بشر، ولا هو من سنن الله في النفس الإنسانية.
فمن لك إذا بهذا الكلام الواحد الذي يجيء من الحقيقة البرهانية الصارمة بما يرضي حتى أولئك الفلاسفة المتعمقين. ومن المتعة الوجدانية الطيبة بما يرضي حتى هؤلاء الشعراء المرحين؟
ذلك الله رب العالمين، فهو الذي لا يشغله شأن عن شأن. وهو القادر على أن يخاطب العقل والقلب معا بلسان. وأن يمزج الحق والجمال معا يلتقيان ولا يبغيان.
وأن يخرج من بينهما شرابا خالصا سائغا للشاربين، وهذا هو ما تجده في كتابه الكريم حيثما توجهت؛ ألا تراه في فسحة قصه وأخباره1 لا ينسى حق العقل من حكمة وعبرة؟
أو لا تراه في معمعة براهينه2 وأحكامه3 لا ينشى حظ القلب من تشويق
- اقرأ مثلا سورة القصص وسورة يوسف -عليه السلام.
-
اقرأ مثلا قوله تعالى:
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّـهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّـهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } الأنبياء: ٢٢
وانظر كيف اجتمع الاستدلال والتهويل والاستعظام في هذه الكلمات القليلة. بل الدليل نفسه جامع بين عمق المقدمات اليقينية ووضوح المقدمات المسلمة ودقة التصوير لما يعقب التنازع من "الفساد" الرهيب. فهو برهاني خطابي عاطفي معا. هل تجد مثل هذا في كتاب من كتب الحكمة النظرية؟
-
اقرأ مثلا قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) البقرة: ١٧٨
وانظر الاستدراج إلى الطاعة في افتتاح الآية بقوله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وترقيق العاطفة بين الواترين والموتورين في قوله: { أَخِيهِ} وقوله: {بِالْمَعْرُوفِ } وقوله: { بِإِحْسَانٍ ۗ } والامتنان في قوله: {فِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ }
والتهديد في ختام الآية. ثم انظر في أي شأن يتكلم؟ أليس في فريضة مفصلة وفي مسألة دموية؟ وتتبع هذا المعنى في سائر آيات الأحكام حتى أحكام الإيلاء والظهار، ففي أي كتاب من كتب التشريع تجد مثل هذا الروح؟ بل في أي لسان تجد هذا المزاج العجيب؟
تالله لو أن أحدا حاول أن يجمع في بيانه بين هذين الطرفين ففرق همه ووزع أجزاء نفسه، لجاء بالأضداد المتنافرة ولخرج بثوب بيانه رقعا ممزعة. وترقيق، وتحذير وتنفير، وتهويل وتعجيب، وتبكيت وتأنيب؟ يبث ذلك في مطالع آياته ومقاطعها وتضاعيفها
{تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّـهِ ۚ} الزمر: ٢٣
( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ﴿١٣﴾ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ﴿١٤﴾) الطارق:13 - 14
"البيان" و"الإجمال":
وهذه عجيبة أخرى تجدها في القرآن ولا تجدها فيما سواه. ذلك أن الناس إذا عمدوا إلى تحديد أغراضهم لم تتسع لتأويل. وإذا أجملوها ذهبوا إلا الإبهام أو الإلباس. أو إلى اللغو الذي لا يفيد. ولا يكاد يجتمع لهم هذان الطرفان في كلام واحد.
وتقرأ القطعة من القرآن فنجد في ألفاظها من الشفوف، والملاسة والإحكام والخلو من كل غريب عن الغرض ما يتسابق به مغزاها إلى نفسها دون كد خاطر ولا استعادة حديث. كأنك لا تسمع كلاما ولغات بل ترى صورا وحقائق ماثلة.
وهكذا يخيل إليك أنك قد أحطت به خبرا ووقفت على معناه محدودا؛ هذا ولو رجعت إليه كرة أخرى لرأيتك منه بإزاء معنى جديد غير الذي سبق إلى فهمك أول مرة، وكذلك.. حتى ترى للجملة الواحدة أو الكلمة الواحدة3 وجوها عدة. كلها صحيح أو محتمل
-
هذا مثل صغير: اقرأ قوله تعالى:
{وَاللَّـهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} البقرة: ٢١٢
وانظر هل ترى كلاما أبين من هذا في عقول الناس. ثم انظر كم في هذه الكلمة من مرونة. فإنك لو قلت في معناها: إنه سبحانه يرزق من يشاء بغير محاسب يحاسبه، ولا سائل يسأله لماذا يبسط الرزق لهؤلاء ويقدره على هؤلاء، أصبت. ولو قلت: إنه يرزق بغير تقتير ولا محاسبة لنفسه عند الإنفاق خوف النفاد، أصبت.
ولو قلت: إنه يرزق من يشاء من حيث لا ينتظر، ولا يحتسب، أصبت. ولو قلت: إنه يرزق بغير معاتبة ومناقشة له على عمله، أصبت، ولو قلت: يرزقه رزقا كثيرا لا يدخل تحت حصر وحساب، أصبت.
فعلى الأول يكون الكلام تقريرا لقاعدة الأرزاق في الدنيا وأن نظامها لا يجري على حسب ما عند المرزوق من استحقاق بعلمه أو عمله، بل تجري وفقا لمشيئته وحكمته سبحانه في الابتلاء، وفي ذلك ما فيه من التسلية لفقراء المؤمنين، ومن الهضم لنفوس= للصحة، كأنما هي فص من الماس يعطيك كل ضلع منه شعاعا، فإذا نظرت إلى أضلاعه جملة بهرتك بألوان الطيف كلها، فلا تدري ماذا تأخذ عينك وماذا تدع.
ولعلك لو وكلت النظر فيها إلى غيرك رأى منها أكثر مما رأيت. وهكذا نجد كتابا مفتوحا مع الزمان يأخذ كل منه ما يسر له؛ بل ترى محيطا مترامي الأطراف لا تحده عقول الأفراد ولا الأجيال. ألم تر كيف وسع الفرق الإسلامية على اختلاف منازعها في الأصول والفروع؟ وكيف وسع الآراء العلمية على اختلاف وسائلها في القديم والحديث؟
وهو على لينه للعقول والأفهام صلب متين. ولا يتناقض ولا يتبدل. يحتج به كل فريق لرأيه، ويدعيه لنفسه، وهو في سموه فوق الجميع يطل على معاركهم حوله، وكأن لسان حاله يقول لهؤلاء وهؤلاء: {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلً} الإسراء: ٨٤