الفصل العاشر / إحكام البنيان القرآني وتماسكه

إحكام البنيان القرآني وتماسكه

اقرأ المزيد

ها أنت ذا قد عرفت نهج التأليف الإنساني في صنعة البيان وغير البيان. ورأيت بعد ما بينه وبين نهج التأليف في نجوم القرآن.

وعرفت ماذا كان يجب أن يحدث في النظم القرآني من جراء هذا النهج العجيب. في أسباب ثلاثة1 من شأنها ألا يستقيم بها للكلام طبع. ولا يلتئم له معها شمل.

عناصر معنوية مختلفة. ظروف زمانية منفصلة. أوضاع تأليفية عجلى ومشتتة.

فانظر الآن استطاعت هذه الأسباب على تضافرها أن تنال شيئا من استقامة النظم في السور المؤلفة على هذا النهج؟

أما العرب الذي تحداهم القرآن بسورة منه فلقد علمت لو أنهم وجدوا في نظم سورة منها مطمعا لطامع، بله مغمزا لغامز، لكان لهم معه شأن غير شأنهم. وهم هم.

وأما البلغاء من بعدهم فما زلنا نسمعهم يضربون الأمثال في جودة السبك وإحكام السرد بهذا القرآن حين ينتقل من فن إلى فن.

وأما أنت فأقبل بنفسك على تدبر هذا النظم الكريم لتعرف بأي يد وضع بنياته؟ وعلى أي عين صنع نظامه؟ حتى كان كما وصفه الله

{قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} الزمر: ٢٨

اعمد إلى سورة من تلك السور التي تتناول أكثر من معنى واحد وما أكثرها في القرآن، فهي جمهرته -وتنقل بفكرتك معها مرحلة مرحلة، ثم ارجع البصر كرتين:

كيف بدئت؟ وكيف ختمت؟ وكيف تقابلت أوضاعها وتعادلت؟ وكيف تلاقت أركانها وتعانقت؟ وكيف ازدوجت مقدماتها بنتائجها ووطئت أولاها لأخرها؟ ..

وأنا لك زعم بأنك لن تجد البتة في نظام معانيها أو مبانيها ما تعرف به أكانت هذه السورة قد نزلت في نجم واحد أم في نجوم شتى.

ولسوف تحسب أن السبع الطول2 من سورة القرآن قد نزلت كل واحدة منها دفعة، حتى يحدثك التاريخ أنها كلها أو جلها3 قد نزلت نجوما. أو لتقولن: إنها إن كانت بعد تنزيلها قد جمعت عن

  • وإذا كانت هذه السور على طولها وكثرة نجومها لا يبدو عليها انفصال النظم، فما ظنك بما دونها إلى سور المفصل؛ حيث جرى التنجيم حتى في بعض القصار منها، كالضحى، واقرأ، والماعون، التي نزلت كل واحدة منها مفرقة على نجمين.

  • هذا الترديد ناظر إلى اختلاف المفسرين في سورة الأنعام، ومذهب الجمهور أنها نزلت جملة واحدة، وقد روى الطبراني وغيره ذلك عن ابن عباس موقوفا عليه،

    وروى عن أبي بن كعب مرفوعا بسند فيه ضعف على أنه لو صح ما ذهب إليه الجمهور في هذه السورة لكانت من جملة الشواهد على اتحاد طريقة النظم في المنجمات وغيرها؛ لأن نظام الانتقال بين المعاني في سورة الأنعام مثله في السور المتفق على تنجيمها، سواء.

تفريق فلقد كانت في تنزيلها مفرقة عن جمع؛ كمثل بنيان كان قائما على قواعده فلما أريد نقله بصورته إلى غير مكانه قدرت أبعاده ورقمت لبناته، ثم فرق أنقاضا فلم تلبث كل لبنة منه أن عرفت مكانها المرقوم، وإذا البنيان قد عاد مرصوصا يشد بعضه بعضا كهيئته أول مرة.

أجل، إنك لتقرأ السورة الطويلة المنجمة يحسبها الجاهل أضغاثا من المعاني حشيت حشوا، وأوزاعا من المباني جمعت عفوا؛ فإذا هي -لو تدبرت- بنية متماسكة قد بنيت من المقاصد الكلية على أسس وأصول، وأقيم على كل أصل منها شعب وفصول، وامتد من كل شعبة منها فروع تقصر أو تطول؛

فلا تزال تنتقل بين أجزائها كما تنتقل بين حجرات وأفنية في بنيان واحد قد وضع رسمه مرة واحدة، لا تحس بشيء من تناكر الأوضاع في التقسيم والتنسيق، ولا بشيء من الانفصال في الخروج من طريق إلى طريق، بل ترى بين الأجناس المختلفة تمام الألفة، كما ترى بين آحاد الجنس الواحد نهاية التضام والالتحاق.

كل ذلك بغير تكلفة ولا استعانة بأمر من خارج المعاني أنفسها، وإنما هو حسن السياقة ولطف التمهيد في مطلع كل غرض ومقطعه وأثنائه، يريك المنفصل متصلا، والمختلف مؤتلفا.

ولماذا نقول: إن هذه المعاني تنتسق في السورة كما تنتسق الحجرات في البينان؟ لا، بل إنها لتلتحم فيها كما تلتحكم الأعضاء في جسم الإنسان، فبين كل قطعة وجارتها رباط موضعي من أنفسهما،

كما يلتقي العظمان عند المفصل ومن فوقهما تمتد شبكة من الوشائح تحيط بهما عن كثب، كما يشتبك العضوان بالشرايين والعروق والأعضاء؛

ومن وراء ذلك كله يسري في جملة السورة اتجاه معين، وتؤدي بمجموعها غرضا خاصا، كما يأخذ الجسم قواما واحدا، ويتعاون بجملته على أداء غرض واحد، مع اختلاف وظائفه العضوية.

فيا ليت شعري: إذا كانت كافة الأجزاء والعناصر التي تتألف منها وحدة السور منوطة بأسباب لم تكن كلها واقعة ولا متوقعة، وكان لا بد لتمام هذه الوحدة من وقوع تلك الأسباب كلها في عصر نزول القرآن ليتناولها ببيانه،

فما الذي أخضع دورة الفلك لنظام هذه الوحدات وجعل هذه النوازل تتوارد بأسرها في إبان التنزيل؟ لماذا لم يتفق في حادثة واحدة منها أن تخلفت عن عالم الوجود يومئذ لينخرم هذا النظام،

فتجيء سورة من السور مبتورة في مفتتحها أو في مختتمها أو فيما بين ذلك؟ أليس مطاوعة تلك الأحداث الكونية ومعاونتها بدقة دائما لنظام هذه الوحدات البيانية،

شاهدا واضحا على أن هذا القول وذاك الفعل كانا يجيئان من طريق واحدة، وأن الذي صدرت هذه الكلمات عن علمه، هو نفسه الذي صدرت تلك الكائنات عن مشيئته1؟

بل ليت شعري لو أن هذا الإنسان الغريب الذي جاء القرآن على لسانه كان قد أحصى ما سوف يلده الزمان من مفاجآت الحوادث المستقبلة صغيرة وكبيرة في مدى دهره، ثم قدر ما سوف تتطلبه تلك النوازل من تعاليم الفرقان،

فما علمه بالنظام البياني الذي ستوضع عليه صيغة تلك التعاليم؟ ثم ما علمه أي هذه التعاليم سيكون قرينة لهذا الجزء أو ذاك؛ ليتأهب لتلك القرائن قبل ورودها فيودع في كل جزء ساعة نزوله عروة لائقة بقرينته المعينة،

حتى إذا قدمت استمسكت بعروتها فازدوجت بقرينها ذلك الازدواج المحكم؟ ولماذا حين وردت كل قرينة وجدت من قرينها جارا لا يجور ولا يجار عليه، ووجدت بجانبه المكان الذي ينتظرها، لا ضيقا فيزاحمها ويتبرم بها،

ولا واسعا فتنقطع الصلة بينهما، بل وجدت مقدرا بمقدارها، حتى لا حاجة إلى الاستدراك على الماضي بمحو حرف، ولا بزيادة حرف، ولا بتبديل وضع، وحتى لا مجال هنا لقول: "ليت ... " ولا "لو إن....".

1 قل كل من عند الله سبحانه، لا معقب لحكمه، ولا مبدل لكلمته.

بل كيف عرف كل جزء من الأجزاء أين مجموعته، وأين مستقره بينها في رأس أو صدر أو طرف: من قبل أن تتبين سائر الآحاد والفصائل.. حتى إذا تم توزيع تلك الأجزاء المتفرقة، والأشلاء الممزقة، إذا الستار يرتفع في كل سورة عن دمية حسناء كاملة الأعضاء متناسقة الحلي؟

أي تدبير محكم، وأي تقدير مبرم، وأي علم محيط لا يضل ولا ينسى، ولا يتردد ولا يتمكث؛ كان قد أعد لهذه المواد المبعثرة نظامها، وهداها في إبان تشتتها إلى ما قدره لها، حتى صبغ منها ذلك العقد النظيم، وسرى بينها هذا المزاج العجيب؟

سبحان الله! هل يمتري عاقل في أن هذا العلم البشري؛ وأن هذا الرأي الأنف البدائي الذي يقول في الشي:

"لو استقبلت من أمري ما استدبرت لقلت أو فعلت، ولقدمت أو أخرت" لم يك أهلا لأن يتقدم الزمان ويسبق الحوادث بعجيب هذا التدبير؟ أليس ذلك وحده آية بينة على أن هذا النظم القرآني ليس من وضع بشر، وإنما هو صنع العليم الخبير؟ بلى؛

{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّـهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} النساء: ٨٢

الفصل الحادي عشر

سورة البقرة

سورة البقرة نموذجا على تماسك بنيان القرآن وإحكامه

الفصل الحادي عشر