الفصل الحادي عشر /المراحل الأربع التي سلكها القرآن في دعوة بني إسرائيل
المراحل الأربع التي سلكها القرآن في دعوة بني إسرائيل
اقرأ المزيدبحسبك أن تعلم أن هذه السورة هي غرة السور المدنية، وأن المدينة كان يسكنها أشد الناس عداوة للذين آمنوا، وأكثرهم جدالا في دينهم بما أوتوه من العلم قبلهم.
بحسبك أن تعلم هذا وذاك لتعرف سر تلك العناية الموفورة بهذا الجانب من الدعوة، نعني دعوة بني إسرائيل خاصة بعد دعوة الناس عامة، ولتعلم حكمة ذلك التبسط في الحديث معهم تارة، والحديث عنهم تارة أخرى، بألوان تختلف هجوما، ودفاعا، واستمالة، واستطالة، إلى ما بعد نصف السورة.
وسترى حين تنتقل في هذه الأحاديث مرحلة مرحلة ما يملك قلبك من جمال نظامها ودقة تقسيمها. - إجمال الحديث عنهم: "بدأ" الكلام معهم بآية فذة
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } البقرة: ٤٠
- تفصيل الحديث عنهم: "ثم" رجع إلى هذه الأغراض يفصلها على تدرج وبقدر معلوم فشرح العهد الذي طلب منهم الوفاء يه، في ست آيات
(وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ۖ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴿٤١﴾ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿٤٢﴾ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴿٤٣﴾ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿٤٤﴾ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴿٤٥﴾ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴿٤٦﴾)
وبين مقدار النعمة التي امتن بها عليهم في آية "47"
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}
ومقدار المخافة التي خوفهم منها في آية أخرى "48"
{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ}
"ثم" قسم الحديث إلى أربعة أقسام:
"القسم الأول" يذكر فيه سالفة اليهود منذ بعث فيهم موسى -عليهم السلام.
"القسم الثاني" يذكر فيه أحوال المعاصرين منهم للبعثة المحمدية.
"القسم الثالث" يذكر فيه أولية المسلمين منذ إبراهيم -عليه السلام.
"القسم الرابع" يذكر فيه حاضر المسلمين في وقت البعثة.
1- ذكر سالفة اليهود "49- 74":
(وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴿٤٩﴾ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴿٥٠﴾ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ﴿٥١﴾ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿٥٢﴾ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿٥٣﴾ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿٥٤﴾ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّـهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴿٥٥﴾ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿٥٦﴾ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۖ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴿٥٧﴾ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَـٰذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ۚ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴿٥٨﴾ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴿٥٩﴾ وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ ۖ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّـهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿٦٠﴾
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّـهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّـهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴿٦١﴾ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿٦٢﴾ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿٦٣﴾ ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۖ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ ﴿٦٤﴾ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴿٦٥﴾ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ﴿٦٦﴾ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ۖ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّـهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴿٦٧﴾
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ ۖ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ﴿٦٨﴾ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴿٦٩﴾ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّـهُ لَمُهْتَدُونَ ﴿٧٠﴾ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا ۚ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ﴿٧١﴾ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ۖ وَاللَّـهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴿٧٢﴾ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّـهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿٧٣﴾ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّـهِ ۗ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿٧٤﴾ )
استهل الخطاب في هذا القسم بثماني آيات يعرف فيها بني إسرائيل بتفاصيل المنن التي امتن بها عليهم مرة بعد مرة، وهي تلك النعم التاريخية القديمة التي اتصل أثرها وسرى نفعها من الأصول إلى الفروع، فجعل يذكرهم بأيام الله فيهم؛ يوم أنجاهم من آل فرعون،
ويوم أنجاهم من اليم وأغرق أعداءهم فيه، ويوم واعدهم بإنزال الكتاب عليهم، ويوم حقق وعده بإنزاله، ويوم قبل توبتهم عن الردة والشرك بالله، ويوم قبل توبتهم عن التمرد على نبيهم واقتراح العظائم عليه. وإنها لنعم جليلة "سابقة للذنب ولاحقة" تلين بذكراها القلوب، وتحرك الهمم لشكر المنعم وامتثال أمره.
وقبل أن ينتقل من تذكيرهم بتلك النعم الجليلة المطمعة للشاكرين في المزيد، إلى تذكيرهم بجرائمهم وما حاق بهم من ضروب النكال الموجبة للامتثال والاعتبار جعل بين الحديثين برزخا مزج فيه ذكر بعض النعم بذكر ما قابلوها به، بعد أن أعد النفس للسير على هذا البرزخ بالتفاتة يسيرة،
فيها رمز الإعراض وعدم الرضا، فبين أنه تعالى متعهم فوق هذا كله متاعا حسنا؛ إذ ظلل عليهم الغمام، ورزقهم من الطعام والشراب رزقا هنيئا من حيث لا يحتسبون، ومن حيث لا كد ولا نصب.
فظلموا أنفسهم وبطروا تلك النعمة وحرفوا كلمة الشكر بتبديلها هزوا ولعبا، واقترحوا بدل ذلك الرزق الناعم عيشة الكدح والعناء، فألزمهم الله ما التزموا، وضرب عليهم الذلة والمسكنة.
وهنا محض الحديث لذكر المخالفات والعقوبات، فذكر أنهم باءوا بغضب من الله؛ لأنهم كفروا بآيات الله وقتلوا النبيين، "غير أنه استثنى المؤمنين منهم من هذا الغضب" وتمردوا على أوامر التوراة جملة حتى أرغموا عليها
ثم تولوا عنها بعد ذلك حتى صاروا جديرين بأن ينزل بهم ما نزل بأهل السبت لولا فضل الله عليهم؛ وأنهم تباطأوا في تنفيذ أمر نبيهم، وبلغ بهم الجهل بمقام نبوته أن ظنوا في بعض تبليغه عن ربه أنه هازل فيه غير جاد..
حلقة الاتصال بين القسمين الأول والثاني "74":
وأراد القرآن أن يصل حاضرهم بماضيهم فانظر كيف وضع بينهما حلقة الاتصال في هذه الآية التي ختم بها القسم الأول:
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ } في قوله: {مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ }
كلمة حددت مبدأ تاريخ القسوة ولم تحدد نهايته، كأنه بذلك وضعت عليه طابع الاستمرار وتركته يتخطى العصور والأجيال في خيال السامع، حتى يظن أن الحديث قد أشرف به على العصر الحاضر، ثم لم يلبث هذا الظن أن ازداد قوة، بصيغة الجملة الاسمية في قوله:
{ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} دون أن يقول: فكانت كالحجارة.
ثم انظر كيف كان انتهاؤه إلى وصف قلوبهم بهذا الوصف توطئة لتغيير الأسلوب فيهم، فإن من يبلغ قلبه هذا الحد من القسوة التي لا لين فيها يصبح استمرار الخطاب معه نابيا عن الحكمة، ويصير جديرا بصرف الخطاب عنه إلى غيره ممن له قلب سليم.
وهكذا سينتقل الكلام من الحديث معهم في شأن سلفهم إلى الحديث معنا في شأنهم أنفسهم.
2- ذكر اليهود المعاصرين للبعثة "75- 121":
( أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّـهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿٧٥﴾ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّـهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿٧٦﴾ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴿٧٧﴾ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴿٧٨﴾ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِندِ اللَّـهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ﴿٧٩﴾ وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّـهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّـهُ عَهْدَهُ ۖ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّـهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿٨٠﴾ بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿٨١﴾ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿٨٢﴾ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّـهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ ﴿٨٣﴾ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ﴿٨٤﴾ ثُمَّ أَنتُمْ هَـٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ۚ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿٨٥﴾
أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ۖ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ﴿٨٦﴾ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ۖ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۗ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴿٨٧﴾ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّـهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ ﴿٨٨﴾ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّـهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّـهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴿٨٩﴾ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّـهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ۚ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴿٩٠﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ ۗ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللَّـهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿٩١﴾ وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ﴿٩٢﴾ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ۖ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ۚ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿٩٣﴾ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ اللَّـهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿٩٤﴾ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ۗ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴿٩٥﴾ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ۗ وَاللَّـهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴿٩٦﴾ قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّـهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿٩٧﴾ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّـهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّـهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ﴿٩٨﴾ وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ۖ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴿٩٩﴾ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿١٠٠﴾ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّـهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّـهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿١٠١﴾
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّـهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴿١٠٢﴾
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّـهِ خَيْرٌ ۖ لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴿١٠٣﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ۗ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿١٠٤﴾ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۗ وَاللَّـهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّـهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴿١٠٥﴾ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿١٠٦﴾ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّـهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّـهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴿١٠٧﴾ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ ۗ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴿١٠٨﴾ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ۖ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّـهُ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿١٠٩﴾ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّـهِ ۗ إِنَّ اللَّـهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿١١٠﴾ وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿١١١﴾ بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّـهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿١١٢﴾ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَاللَّـهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿١١٣﴾ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّـهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا ۚ أُولَـٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿١١٤﴾ وَلِلَّـهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿١١٥﴾ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّـهُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ ۖ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ﴿١١٦﴾ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴿١١٧﴾ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّـهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ۘ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ۗ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴿١١٨﴾ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۖ وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴿١١٩﴾ وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّـهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّـهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴿١٢٠﴾ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴿١٢١﴾ )
افتتح الكلام في هذا القسم بجملة طريفة ليست على سنن ما قبلها وما بعدها من السرد الإخباري، جملة استفهامية يكتنفها حرفان عجيبان: "أحدهما" يعيد إلى الذاكرة كل ما مضى من وقائع القسم الأول، "والآخر" يفتح الباب لكل ما يأتي من حوادث هذا القسم.
وتقع هي بين التاريخين القديم والحديث موقع العبرة المستنبطة والنتيجة المقررة، بين أسباب مضت وأسباب تأتي:
{فَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } .
فهذه الفاء تقول لنا: أبعد كل ما قصصناه يطمع طامع في إيمان هؤلاء القوم وهم الوارثون لذلك التاريخ الملوث؟ وهذه الواو تقول هذا
{وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } .
ويعود السرد الإخباري إلى مجراه التفصيلي، فيقص علينا من مساوئ أوصاف الحاضرين منهم ومنكرات أفاعيلهم وأقاويلهم زهاء عشرين سببا لا تبقي مطمعا لطامع في إيمانهم، سواء منها ما كان مختصا بهم، وما كان يشاركهم فيه غيرهم من أسلافهم، أو من النصارى أو الوثنيين.
ثم لا يدع زعما من مزاعمهم إلا قفي عليه بما يليق به من الرد والتفنيد. "وقد بدأ هذا الوصف" بتقسيمهم إلى فريقين: علماء يحرفون كلام الله ويتواصون بكتمان ما عندهم من العلم لئلا يكون حجة عليهم.
وجهلاء أميين هم أسارى الأماني والأوهام، وضحايا التضليل والتلبيس الذي يأتيه علماؤهم، فمن ذا الذي يطمع في صلاح أمة جاهلها مضلل مخدوع بأخذ باسم الدين ما ليس بدين، وعالمها مضلل خادع يكتب الكتاب بيده ويقول هذا من عند الله.
"وثنى" ببيان منشأ اجترائهم على كل مويقة، ألا وهو غرورهم بزعمهم أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة. ولقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يوسع هذا الزعم دحضا وإبطالا، وأن يتدرج معهم في هذه المجادلة على درجات المنطق السليم والبحث المستقيم فيبدأ بمطالبتهم البرهان على ما زعموا.
ثم ينقضه ببيان مخالفته لقانون العدل الإلهي الذي لا يعرف شيئا من الظلم ولا المحاباة لأحد، بل الخلق أمامه سواء:
كان امرئ رهين بعمله، ومن يعمل سوءا أو حسنا يجز به. ثم يعارضه بقلب القضية عليهم مبينا لهم أنهم من أولئك الذين كسبوا السيئات وأحاطت بهم خطيئاتهم: ألم يؤخذ عليكم الميثاق بتقوى الله والإحسان إلى الناس فتوليتم؟ ألم يؤخذ عليكم الميثاق بترك الإثم والعدوان فاعتديتم؟
ثم آمنتم ببعض الكتاب وكفرتم ببعض، وحكمتم أهواءكم في الشرائع فكما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم. "ثم أتبع ذلك سائر هناتهم" فذكر:
1- تصامهم عن سماع الحق بدعوى أن قلوبهم مقفلة.
2- كفرهم بالكتاب الجديد لأنه أنزل على غيرهم، بعد أن كانت أعناقهم مشرئبة إليه ينتظرون ظهوره على يد نبي ينصرهم على المشركين.
3- دعواهم القيام بواجبهم وهو الإيمان بما أنزل عليهم وكفى، مع أنهم كافرون حتى بما أنزل عليهم، وتلك شنشنتهم منذ عبدوا العجل وأشربوا حبه في قلوبهم.
4- زعمهم أن لهم الدار الآخرة خالصة، ثم مناقضتهم أنفسهم في ذلك بكراهتهم الموت وشدة حرصهم على الحياة.
5- عداوتهم لجبريل؛ لأنه أنزل الكتاب على غيرهم، مع أنه إنما أنزل بعلم الله.
6- تكرر نبذهم للعهود.
7- اشتغالهم بكتب السحر وترك كتب الله وراء ظهورهم.
8- حقدهم وأثرتهم هم وسائر المخالفين من أهل الكتاب والمشركين وكراهيتهم أن ينزل الوحي على غيرهم، مع أن لله أن يختص بنبوته من يشاء، وله أن ينسخ شريعة
ولفظ "راع" معناه الشر والشقاوة فإذا أضيف إلى ضمير المتكلمين صار بلسانهم "راعينو" ومعناه في الخطاب أنت ضرنا وشقوتنا.. ولعلهم والله أعلم كانوا يلوون ألسنتهم في النطق بها ليقربوها من الصيغة العربية سترا لنيتهم واكتفاء بالرمز المفهوم فيما بينهم.
فأمر الله المؤمنين أن يخاطبوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقول "انظرنا" حتى لا يجد المنافقون سبيلا إلى التلاعب بلفظ ذي وجهين، أو أيضا فإن "راعنا" كلمة يقولها السائل المستقصي يطلب بها إصغاء المسئول إليه حتى يفرغ هو من أسئلته.
وتلك عادة اليهود عند إكثارهم من السؤال. فأمر الله المؤمنين أن يحافظوا على حسن الاستماع حتى لا يحتاجوا إلى السؤال، وأن يقولوا "انظرنا" وهي كلمة يقولها المتعلم إذا أراد التثبت مما يقال له لا الزيادة عليه.
ويأتي بشريعة أخرى مثلها أو خير منها.
10- رغبة كثير منهم في أن يردوا المؤمنين كفارا.
11- زعم كل من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة غيرهم. أماني يتمنونها بغير برهان.
12- طعن كلتا الطائفتين في أختها بقول اليهود: ليست النصارى على شيء، وقول النصارى: ليست اليهود على شيء، وطعن المشركين في كلتيهما.
13- اشتراك الطوائف الثلاث في السعي لإخلاء المساجد من ذكر الله.
14- اشتراكهم في الجهل بالله ونسبتهم الولد إليه.
15- اشتراكهم في التوقف عن الإيمان بالرسل -عليهم السلام- حتى يكلمهم الله بغير واسطة أو ينزل عليهم آية ملجئة.
"ثم ختم الهنات" بأدعاها إلى اليأس من إيمانهم، وهو أنهم يطمعون في تحويل الرسول -صلى الله عليه وسلم- نفسه إلى اتباع أهوائهم، فكيف يطمع هو في استتباعهم إلى هداه؟ كلا ولكن حسبه أن الراسخين في العلم منهم وهم الذين يتلون الكتاب حق تلاوته يؤمنون بهذا الهدى الذي جاء به والكافرون هم الخاسرون.
3- ذكر قدامى المسلمين من لدن إبراهيم "122- 134":
( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿١٢٢﴾ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ﴿١٢٣﴾ وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴿١٢٤﴾ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿١٢٥﴾ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿١٢٦﴾ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿١٢٧﴾ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿١٢٨﴾ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿١٢٩﴾ وَمَن
يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴿١٣٠﴾ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٣١﴾ وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴿١٣٢﴾ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴿١٣٣﴾ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿١٣٤﴾ )
شأن المصلح الحكيم في دعوته شأن الزارع، يبدأ بالأرض فيقتلع أشواكها وينقيها من حشائشها الضارة قبل أن يلقي فيها البذور الصالحة أو يغرس فيها الأشجار النافعة، وكذلك الداعي الحكيم يبدأ بالنفوس فيلويها عن الباطل والفساد ثم يوجهها إلى طريق الحق والهدى.
فهذان دوران يقوم في أحدهما بالتطهير والتخلية، وفي الثاني بالتكميل والتحلية، وأنت قد رأيت الكلام في دعوة بني إسرائيل قد مضى إلى هذا الحد في بيان عوج الطريق الذي يسلكونه، ورأيته قد أوسع البيان في ذلك حتى أتى على نهاية الدور الأول:
أليس من الحق إذا أن يبدأ الدور الثاني فيبين الطريق السوي الذي يجب أن يسلكوه.
ثم رأيت كيف اختتم البيان السابق بذكر هدى الله والعلم الذي علمه لنبيه وذكر الفريق الذي يرجى إيمانهم به من أهل الكتاب، وهم الذي يتلون الكتاب حق تلاوته، أليس هذا الاختتام نفسه مطلعا تشرف النفس منه على هذا الافتتاح؟
ثم رأيت الحديث في الدور الأول منقسما إلى قسمين: قسم يتحدث فيه عن ماضي اليهود، وقسم يتحدث فيه عن حاضرهم. ألا يكون من حسن التقابل أن يقسم الحديث الثاني إلى القسمين. عن ماضي المسلمين وعن حاضرهم؟
ذلك هو ما تراه فيما يلي:
بل سترى ما هو مقابلة ومشاكلة، فسيجري الكلام في القسم الأول هنا على سنن الخطاب مع بني إسرائيل، والكلام في القسم الثاني على سنن التحدث عنهم، كما جرى هنالك في القسمين سواء. وأكبر من هذا كله أنك ترى الآيتين الكريمتين اللتين صدر بهما أول الحديث هناك قد صدر بهما أول الحديث هنا؛
ليدعوهم إلى اعتناق الحق بمثل ما دعاهم به إلى اجتناب الباطل، وليتقرر في نفس السامع من أول الأمر أن الحديث سيعود كما بدأ، ولكن في طريق يقابل ذلك الطريق، وبمعنى جديد هو عدل لذلك المعنى القديم
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿١٢٢﴾ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ﴿١٢٣﴾ وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ... } .
وهكذا أنشأ يدعو بني إسرائيل إلى طريق السلف الصالح، لا بأسلوب الأمر والتحريض الذي جرب من قبل فلم ينجع فيهم، بل بأسلوب قصصي جذاب يعرض فيه ذلك التاريخ المجيد لإبراهيم -عليه السلام- وأبنائه وأحفاده في العصور الذهبية التي لا يختلف أحد من أهل الكتاب ولا المشركين في تعظيمهما ومحبتها ومحبة الانتساب إليها.
مكررا على لسانهم جميعا تلك الكلمة العذبة التي تركها إبراهيم في عقبه، فتوارثها أبناؤه وأحفاده يوصي كل منهم بها بنيه، كلمة "الإسلام لله رب العالمين".
وتراه في أثناء عرضه لتاريخ إبراهيم -عليه السلام- وإمامته للناس لا ينسى أن يحكي كلماته التي دعا بها ربه أن يجعل من ذريته إماما للناس كما جعله هو.
ثم تراه حين يروي قيام إبراهيم وابنه إسماعيل ببناء البيت المعظم الذي جعله الله حرما آمنا ومثابة للناس وقبلة لصلاتهم، لا ينسى أن يحكي تضرعهما إلى الله أن يجعل من ذريتهما أمة مسلمة وأن يبعث فيهم رسولا منهم يعلمهم ويزكيهم.
ممهدا بهذا وذاك لتقرير تلك الصلة التاريخية المتينة التي تربط هذا النبي وأمته بذينك النبيين الجليلين؛ لا صلة النبوة النسبية فحسب، بل صلة المبدأ ورابطة الوحدة الدينية أيضا، فهم من ذريتهما، ووجودهم تحقيق لقبول دعوتهم، وملتهم ملتهما؛ وقبلتهم قبلتهما، ومثابتهم في حجهم مثابتهما.
ومقررا في الوقت نفسه انقطاع مثل هذه النسبة المشرفة عن اليهود الذين ينتسبون بالبنوة لإبراهيم ويعقوب، وهم عن ملتهما منحرفون ولوصيتهما مخالفون. فماذا يغني النسب عن الأدب؟ ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه
{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
4- ذكر حاضر المسلمين وقت البعثة "135- 162":
{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ۗ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿١٣٥﴾ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّـهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴿١٣٦﴾ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ۖ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّـهُ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿١٣٧﴾ صِبْغَةَ اللَّـهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّـهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴿١٣٨﴾ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّـهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ﴿١٣٩﴾ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّـهُ ۗ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّـهِ ۗ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿١٤٠﴾ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿١٤١﴾
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ۚ قُل لِّلَّـهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿١٤٢﴾ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّـهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿١٤٣﴾
قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴿١٤٤﴾ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ۚ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ۚ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ۚ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ﴿١٤٥﴾ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿١٤٦﴾ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴿١٤٧﴾ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّـهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿١٤٨﴾ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ۗ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿١٤٩﴾ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿١٥٠﴾ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴿١٥١﴾ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴿١٥٢﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴿١٥٣﴾
وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَـٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ ﴿١٥٤﴾ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴿١٥٥﴾ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴿١٥٦﴾ أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴿١٥٧﴾ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّـهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّـهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴿١٥٨﴾ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَـٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّـهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴿١٥٩﴾ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَـٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿١٦٠﴾ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّـهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴿١٦١﴾ خَالِدِينَ فِيهَا ۖ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ﴿١٦٢﴾)
واتصل ذكر الخلف بذكر السلف، وخرج الكلام من التلويح إلى التصريح، فأقبل يقرر -في جلاء- صلة هذه الأمة المسلمة بتلك الأمة الصالحة في أصول ملتها، وفي أهم فروعها، ويقص علينا ما يحاوله سفهاء الأحلام من بين إسرائيل وغيرهم لحرمان المسلمين من تلك الصلة،
وذلك بدعوتهم المسلمين إلى اتباع ملتهم تارة، وبالطعن في قبلتهم تارة أخرى، ويكر على كلتا المحاولتين بالهدم والاستئصال. وقد رأيت الحديث الآنف كيف امتزج فيه ذكر ملة إبراهيم بذكر قبلته فانظر كيف كان ذلك تأسيسا قويا لما يبنى عليه هنا من ذكر ملة المسلمين وذكر قبلتهم.
قال في شأن الملة- إن أهل الكتاب يدعونكم -بعد هذا البيان- أن تكونوا هودا أو نصارى. فقولوا لهم:
بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا، وعرفوهم جلية الأمر في هذه الملة الحنيفية، وأنها إيمان بالله بكل ما أنزل على النبيين لا نفرق بين أحد منهم، هذه عقيدتنا بيضاء ناصعة، فأي ركنيها تنقمون منا؟ وفي أيها تخاصموننا؟ أفي الله وهو ربنا وربكم، أم في إبراهيم وبنيه، وهل كانوا هودا أو نصارى
{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
وكان هذا الترديد وحده كافيا لإفحامهم وإغلاق الباب في وجوههم من هذه الناحية؛ إذ تبين أن أصول هذه الملة أمنع من أن نقبل الجدال في شيء منها.
فانتقل عنها وشيكا إلى إبطال محاولتهم الأخرى في مسألة "الكعبة المعظمة" التي عليها يدور العمل بشعيرتين، هما أعظم شعائر الإسلام وأظهرها "الصلاة والحج"، والتي قد تقرر ما لها من الأصل الأصيل في الدين باتخاذ إبراهيم وإسماعيل إياها مثابة ومصلى.
ولكن هذا لم يكن كافيا لإسكات المجادلين الذين اتخذوا من تحول المسلمين إليها وتركهم القبلة التي كانوا عليها مطعنا على النبوة فتنوا به بعض ضعفاء المؤمنين، فمست الحاجة إلى مزيد بسط في شأنها تتقرر به الحجة وتدحض به الشبهة، ولذلك تراه يوجه إليها أكبر الشطرين من عنايته:
فيأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بادئ ذي بدء أن يجيب المتسائلين عن حكمة هذا التحويل جواب عزة وإباء، يرد الأمر فيه إلى من لا يسأل عما يفعل، قائلا لهم: إن الجهات كلها سواء، يوجهنا الله منها إلى ما يشاء، وهو الذي يهدي إلى الصراط المستقيم.
ثم أخذ يأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- تارة، والمؤمنين تارة، ويأمرهما معا تارة أخرى، في أسلوب مؤكد مفصل أن يثبتوا على هذه القبلة حيث هم، وفي كل مكان يقيمون فيه حضرا، وفي كل مكان يخرجون منه سفرا. وطفق ينثر في تضاعيف هذه الأوامر المؤكدة ما شاء من تعريف بأسرار التشريع القديم والجديد، فيقول:
إن تشريع تلك القبلة الوقتية ما كان إلا اختبارا لإيمان المهاجرين؛ ليتبين من يتبع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ممن ينقلب على عقبيه، وأما تشريع هذه القبلة الباقية فإنه ينطوي على الحكم البالغة والمقاصد الجليلة، فهي القبلة الوسطى التي تليق بكم أيتها الأمة الوسطى،
وهي القبلة التي ترضاها يا أيها النبي والتي طالما قلبت وجهك في السماء مستشرفا إلى الوحي بها، وهي القبلة التي يعلم أهل الكتاب أنها الحق من ربهم، وإن كان يكتمون ذلك حسدا وعنادا، وهي القبلة التي يشهد الله بأنها الحق من عنده، وأخيرا هي القبلة التي لا يبقى لأحد من المنصفين حجة عليكم.
أما الظالمون فلن ينقطع جدالهم في شأنها ما بقيت عداوتهم لكم، ولكن لا تخشوهم، بل وطنوا أنفسكم على التضحية في سبيل الله، واصبروا ولا تحزنوا على من سيقتل منكم في هذه السبيل؛ فإن الموت فيها هو الحياة الباقية.
ثم اوما إلى أن الجدال في هذه القبلة ليس صدا عن الشعائر التي في داخل المسجد الحرام فحسب، بل هو كذلك صد عما حوله من الشعائر:
{ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّـهِ ۖ }.
ثم أكد أمر هاتين الشعيرتين على نحو ما أكد أمر القبلة بالتعريض بأهل الكتاب الذين يعلمون أصلهما في تاريخ إبراهيم، ولكنهم يكتمون ما أنزله الله من البينات وهم يعلمون.
أرأيت هذه المراحل الأربع التي سلكها القرآن في دعوة بني إسرائيل كيف رتبها مرحلة مرحلة، وكيف سار في كل مرحلة منها خطوة خطوة.
فارجع البصر كرة أخرى إلى هذه المرحلة الأخيرة منها، لتنظر كيف استخدم موقعها هذا لتحقيق غرضين مختلفين، وجعلها حلقة اتصال بين مقصدين متنائيين.
فهي في جملتها مناجات من الله للنبي والمؤمنين في خاصة شأنهم وفيما يعنيهم من أمر دينهم، ولكنه جعل لهذه النجوى طرفين، لون كل طرف منها بلون المقصد الذي يتصل به، فالتقى المقصدان فيها على أمر قد قدر.
ألم تر كيف بدأها بأن قص على المؤمنين مقالة أعدائهم في بعض حقائق الإسلام، وعمد إلى هذه الحقائق التي تماروا فيها، فجعل يمسح غبار الشبهة عن وجهها حتى جلاها بيضاء للناظرين.
فكانت هذه البداية كما ترى نهاية لتلك المعارك الطويلة التي حورب فيها الباطل في كل ميدان.
ثم رأيت كيف ساق الحديث فجعل يثبت أقدام المؤمنين على تلك الحقائق النظرية والعملية، ويحرضهم على الاستمساك بها في غير ما آية ... أفلا تكون هذه النهاية بداية لمقصد جديد بعدها يرد به هداية المؤمنين إلى تعاليم الإسلام مفصلة.
بلى ... إن ذلك هو ما توحي به سياقة هذه النجوى المتواصلة، التي مدت في خطاب المؤمنين مدا. وحولت مجرى الحديث معهم رويدا رويدا، حتى صار كل من ألقى سمعه إليها مليا، يسمع في طيها نداء خفيا:
أن فرغنا اليوم من الأعداء جهادا، وأقبلنا على الأولياء تعليما وإرشادا، وأن قد طوينا كتاب الفجار، وجئنا نفتتح كتاب الأبرار، وأن هذه الصفحة الأخيرة من دعوة بني إسرائيل لم تك إلا طليعة من كتائب الحق،
تنبئ أن سيتلوها جيشه الجرار، أو شعاعة من فجر الهدى سيتحول الزمان بها من سواد الليل إلى بياض النهار، ألا ترى الميدان قد أصبح خاليا من تلك الأشباح الإسرائيلية التي كانت تتراءى لك في ظلام الباطل تهاجمها وتهاجمك.
هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟ أو لا ترى هذه الأشعة الأولى من شمس الشريعة الإسلامية قد انبعثت يسوق بعضها بعضا. أصول جامعة نظرية، تتبعها طائفة من فروعها الكبرى العملية ... ألم يأن لسائر الفروع أن تجيء من خلفها حتى تبلغ الشمس ضحاها.
هكذا تفتحت الآذان لسماع شرائع الإسلام مفصلة. فلو أنها أقبلت علينا الآن عدا وسردا ما حسبنا الحديث عنها حديثا مقتضبا.
لكن القرآن، وقد وضع على أدق الموازين البيانية وأرفقها بحاجات النفوس، لم يشأ أن يهجم على المقصود مكتفيا بهذا التمهيد بل أراد أن يقدم بين يديه شقة تستجم النفس فيها من ذلك السفر البعيد.. وتأخذ أهبتها لرحلة أخرى إلى ذلك المقصد الجديد.. فانظر فيما يلي: