الفصل السابع / نظرتان في القشرة السطحية للفظ القرآن
نظرتان في القشرة السطحية للفظ القرآن
اقرأ المزيدأول ما يفجؤك:
أول ما يلاقيك ويستدعي انتباهك من أسلوب القرآن الكريم خاصية تأليفه الصوتي في شكله وجوهره.
1- الجمال التوقيعي في توزيع حركاته وسكناته، ومداته وغناته:
دع القارئ المجود يقرأ القرآن يرتله حق ترتيله نازلا بنفسه على هوى القرآن، وليس نازلا بالقرآن على هوى نفسه.
ثم انتبذ منه مكانا قصيا لا تسمع فيه جرس حروفه، ولكن تسمع حركاتها وسكناتها، ومداتها وغناتها، واتصالاتها وسكتاتها، ثم ألق سمعك إلى هذه المجموعة الصوتية، وقد جردت تجريدا وأرسلت ساذجة في الهواء.
فستجد نفسك منها بإزاء لحن غريب عجيب لا تجده في كلام آخر لو جرد هذا التجريد، وجود هذا التجويد.
ستجد اتساقا وائتلافا يسترعي من سمعك ما تسترعيه الموسيقى والشعر، على أنه ليس بأنعام الموسيقى ولا بأوزان الشعر، وستجد شيئا آخر لا تجده في الموسيقى ولا في الشعر. ذلك أنك تسمع القصيدة من الشعر فإذا هي تتحد الأوزان فيها بيتا بيتا، وشطرا شطرا، وتسمع القطعة من الموسيقى فإذا هي تتشابه أهواؤها وتذهب مذهبا متقاربا.
. فلا يلبث سمعك أن يمجها، وطبعك أن يملها، إذا أعيدت وكررت عليك بتوقيع واحد. بينما أنت من القرآن أبدا في لحن متنوع متجدد، تنتقل فيه بين أسباب وأوتاد وفواصل1 على أوضاع مختلفة، يأخذ منها كل وتر من أوتار قلبك بنصيب
1 هل أنت بحاجة إلى معرفة مسميات هذه الألقاب؟ الحرف المتحرك يتلوه حرف ساكن يقال لهما:
"سبب خفيف". والحرفان المتحركان يتلوهما ساكن "وتد مجموع" والحرفان المتحركان لا يتلوهما ساكن "سبب ثقيل" والحرفان المتحركان يتوسطهما ساكن "وتد مفروق" وثلاثة أحرف متحركة يعقبها ساكن "فاصل صغير" وأربعة أحرف متحركة يعقبها ساكن "فاصل كبير".
سواء، فلا يعروك منه على كثرة ترداده ملالة ولا سأم. بل لا تفتأ تطلب منه المزيد.
هذا الجمال التوقيعي في لغة القرآن لا يخفى على أحد ممن يسمع القرآن، حتى الذين لا يعرفون لغة العرب. فكيف يخفى على العرب أنفسهم؟
وترى الناس قد يتساءلون: لماذا كانت العرب إذا اختصمت في القرآن قارنت بينه وبين الشعر نفيا وإثباتا، ولم تعرض لسائر كلامها من الخطابة وغيرها؟
وأنت، فهل تبينت ها هنا الجواب، وهديت إلى السر الذي فطنت له العرب، ولم يفطن له المستعربون؟ إن أول شيء أحسته تلك الأذن العربية في نظم القرآن هو ذلك النظام الصوتي البديع الذي قسمت فيه الحركة والسكون تقسيما منوعا يجدد نشاط السامع لسماعه، ووزعت في تضاعيفه حروف المد والغنة توزيعا بالقسط الذي يساعد على ترجيع الصوت به وتهادي النفس به آنا بعد آن،
، إلى أن يصل إلى الفاصلة الأخرى فيجد عندها راحته العظمى، وهذا النحو من التنظيم الصوتي إن كانت العرب قد عمدت إلى شيء منه في أشعارها فذهبت فيها إلى حد الإسراف في الاستهواء، ثم إلى حد الإملال في التكرير.
فإنها ما كانت تعهده قط ولا كان يتهيأ لها بتلك السهولة في منثور كلامها سواء منه المرسل والمسجوع؛ بل كان يقع لها في أجود نثرها عيوب تغض من سلاسة تركيبه، ولا يمكن معها إجادة ترتيله إلا بإدخال شيء عليه أو حذف شيء منه.
لا عجب إذا أن يكون أدنى الألقاب إلى القرآن في خيال العرب أنه شعر؛ لأنها وجدت في توقيعه هزة لا تجد شيئا منها إلا في الشعر. ولا عجب أن ترجع إلى أنفسها، فتقول: ما هو بشعر؛ لأنه -كما قال الوليد1- ليس على أعاريض الشعر في رجزه ولا في قصيده.
ثم لا عجب أن تجعل مرد هذه الحيرة أخيرا إلى أنه ضرب من السحر؛ لأنه جمع بين طرفي الإطلاق والتقييد في حد وسط، فكان له من النثر جلاله وروعته، ومن الشعر جماله ومتعته.
1 تقدمت كلمة الوليد في ذلك.
2- الجمال التنسيقي في رصف حروفه وتأليفها من مجموعات مؤتلفة مختلفة:
فإذا ما اقتربت بأذنك قليلا قليلا، فطرقت سمعك جواهر حروفه خارجة من مخارجها الصحيحة، فاجأتك منه لذة أخرى في نظم تلك الحروف ورصفها وترتيب أوضاعها فيما بينها؛
هذا ينقر وذاك يصفر، وثالث يخمس ورابع يجهر، وآخر ينزلق عليه النفس، وآخر يحتبس عنده النفس. وهلم جرا، فترى الجمال اللغوي ماثلا أمامك في مجموعة مختلفة مؤتلفة1 لا كركرة ولا ثرثرة، ولا رخاوة ولا معاظلة، ولا تناكر ولا تنافر.
وهكذا ترى كلاما ليس بالحضري الفاتر، ولا بالبدوي الخشن، بل تراه وقد امتزجت فيه جزالة البادية وفخامتها برقة الحاضرة وسلاستها، وقدر فيها الأمر تقديرا لا يبغي بعضهما على بعض. فإذا مزيج منهما كأنما هو عصارة اللغتين وسلالتهما، أو كأنما هو نقطة الاتصال بين القبائل، عندها تلتقي أذواقهم، وعليها تأتلف قلوبهم.
ومن هذه الخصوصية والتي قبلها تتألف القشرة السطحية للجمال القرآني.
. وليس الشأن في هذا الغلاف إلا كشأن الأصداف مما تحويه من اللآلئ النفيسة، فإنه جلت قدرته قد أجرى سنته في نظام هذا العالم أن يغشي جلائل أسراره بأستار لا تخلو من متعة وجمال، ليكون ذلك من عوامل حفظها وبقائها بتنافس المتنافسين فيها وحرصهم عليها.
انظر كيف جعل باعثة الغذاء ورابطة المحبة قواما لبقاء الإنسان فردا وجماعة. فكذلك لما سبقت كلمته أن يصون علينا نفائس العلوم التي أودعها هذا الكتاب الكريم قضت حكمته أن يختار لها صوانا يحببها إلى الناس بعذوبته، ويغريهم عليها بطلاوته، ويكون بمنزلة "الحداء" يستحث النفوس على السير إليها.
ويهون عليها وعثاء السفر في طلب كمالها. لا جرم اصطفى لها من هذا اللسان العربي المبين ذلك
1 من وقف على صفات الحروف ومخارجها ازداد بهذا المعنى علما. وإن شئت فارجع إلى ما كتبه الأديب الرافعي عن هذه الناحية في كتابه الموسوم "إعجاز القرآن" فقد أطال نفسه فيها وأجاد.
القالب العذب الجميل. ومن أجل ذلك سيبقى صوت القرآن أبدا في أفواه الناس وآذانهم ما دامت فيهم حاسة تذوق وحاسة تسمع، وإن لم يكن لأكثرهم قلوب يفقهون بها حقيقة سره، وينفذون بها إلى بعيد غوره
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر: ٩
هل عرفت أن نظم القرآن الكريم يجمع إلى الجمال عزة وغرابة؟ وهل عرفت أن هذا الجمال كان قوة إلهية حفظ بها القرآن من الفقد والضياع؟
فاعرف الآن أن هذه الغرابة كانت قوة أخرى قامت بها حجة القرآن في التحدي والإعجاز، واعتصم بها من أيدي المعارضين والمبدلين، وأن ذلك الجمال ما كان ليكفي وحده في كف أيديهم عنه، بل كان أجدر أن يغريهم به. ذلك أن الناس -كما يقول الباقلاني2:
إذا استحسنوا شيئا اتبعوه، وتنافسوا في محاكاته بباعث الجبلة.
. وكذلك رأينا أصحاب هذه الصناعة يتبع بعضهم بعضا فيما يستجيدونه من الأساليب، وربما أدرك اللاحق فيهم شأو السابق أو أربى عليه، كما صنع ابن العميد بأسلوب الجاحظ، وكما يصنع الكتاب والخطباء اليوم في اقتداء بعضهم ببعض.
وما أساليب الناس على اختلاف طرائقها في النثر والشعر إلا مناهل مورودة، ومسالك معبدة، تؤخذ بالتعلم، وتراض الألسنة والأقلام عليها بالمرانة، كسائر الصناعات.
فما الذي منع الناس أن يخضعوا أسلوب القرآن لألسنتهم وأقلامهم وهو شرع في استحسان طريقته، وأكثرهم الطالبون لإبطال حجته؟
ما ذاك إلا أن فيه منعة طبيعية كفت ولا تزال تكف أيديهم عنه، ولا ريب أن أول ما تلاقيك هذه المناعة فيما صورناه لك من غريب تأليفه في نيته، وما اتخذه في رصف حروفه وكلماته، وجمله وآياته، من نظام له سمت وحده، وطابع خاص به، خرج فيه عن هيئة كل نظم تعاطاه الناس أو يتعاطون.
فلا جرم لم يجدوا له مثالا يجاذونه به، ولا سبيلا يسلكونه إلى تذليل منهجه، وآية ذلك أن أحدا لو حاول أن يدخل عليه شيئا من كلام الناس السابقين منهم أو اللاحقين، من الحكماء أو البلغاء أو النبيين والمرسلين، لأفسد بذلك مزاجه في فهم كل قارئ ولجعل نظامه يضطرب في أذن كل سامع، وإذا لنادى الداخل على نفسه بأنه واغل دخيل، ولنفاه القرآن عن نفسه كما ينفي الكير خبث الحديد
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ﴿٤١﴾ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴿٤٢﴾ ) فصلت :41 - 42