استقصاء الشبه الممكنة حول هذه القضية تمهيدا لمحوها واحدة واحدةمن كان عنده شيء من الشك في هذه القضية فليأذن لنا أن نستوضحه: فيم ذلك الشك؟
هل حدثته نفسه بأنه يستطيع أن يأتي بكلام في طبقة البلاغة القرآنية؟ أم هو قد عرف من نفسه القصور عن تلك الرتبة، ولكنه لم يعرف عن الناس ما عرف عن نفسه؟
أم علم أن الناس جميعا قد سكتوا عن معارضة القرآن، ولكنه لم يعلم أن سكوتهم عنه كان عجزا، ولا أن عجزهم جاء من ناحية القرآن ذاته؟
أم علم أنهم قد عجزوا عنه وأنه هو الذي أعجزهم، ولكنه لم يعلم أن أسلوبه كان من أسباب إعجازه؟ أم هو يوقن بأن القرآن الكريم كان وما زال معجزة بيانية لسائر الناس، ولكنه لا يوقن بأنه كان معجزا كذلك لمن جاء به؟
أم هو يؤمن بهذا كله؛ ولكنه لا يدري: ما أسراره وما أسبابه؟ هذه وجوه ستة، لكل وجه منها علاج يخصه. وسنعالجها على هذا الترتيب:
"الشبهة الأولى" شبهة غر ناشئ يتوهم القدرة على محاكاة القرآن:
1- فأما إن كان مثار الشبهة عنده أنه زاول شيئا من صناعة الشعر أو الكتابة، وآنس من نفسه اقتدارا في البيان فوسوس له شيطان الإعجاب بنفسه والجهل بالقرآن أنه يستطيع الإتيان بمثل أسلوبه، فذلك ظن لا يظنه بنفسه أحد من الكبار المنتهين، وإنما يعرض -إن عرض- للأغرار الناشئين.
ومثل هذا دواؤه عندنا نصح نتقدم به إليه أن يطيل النظر في أساليب العرب، وأن يستظهر على فهمها بدراسة طرف من علوم الأدب،
حتى تستحكم عنده ملكة النقد البياني، ويستبين له طريق الحكم في مراتب الكلام وطبقاته، ثم ينظر في القرآن بعد ذلك.
وأنا له زعيم بأن كل خطوة يخطوها في هذه السبيل ستزيده معرفة بقدره، وستحل عن نفسه عقدة من عقد الشك في أمره؛ إذ يرى هنالك أنه كلما ازداد بصيرة بأسرار اللغة، وإحسانا في تصريف القول،
وامتلاكا لناصية البيان، ازداد بقدر ذلك هضما لنفسه، وإنكارا لقوته، وخضوعا بكليته أمام أسلوب القرآن، وهذا قد يبدو لك عجيبا، أن يزداد شعور المرء بعجزه عن الصنعة بقدر ما تتكامل فيها قوته ويتسع بها علمه.
ولكن لا عجب، فتلك سنة الله في آياته التي يصنعها بيديه: لا يزيدك العلم بها والوقوف على أسرارها إلا إذعانا لعظمتها وثقة بالعجز عنها.
ولا كذلك صناعات الخلق، فإن فضل العلم بها يمكنك منها ويفتح لك الطريق إلى الزيادة عليها، ومن هنا كان سحرة فرعون هم أول المؤمنين برب موسى وهارون.
فإن أبى المغرور إلا إصرارا على غروره، وكبر عليه أن يقر بعجزه وقصوره، دعوناه إلى الميدان ليجرب نفسه ويبرز قوته، وقلنا له: أخرج لنا أحسن ما عندك لننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين..
غير أننا نعظه بواحدة أخرى: ألا يخرج على الناس ببضاعته حتى يطيل الروية ويحكم الموازنة، وحتى يستيقن الإحسان والإجادة؛ فإنه إن فعل ذلك كان أدنى أن يتدارك غلطه ويواري سوءته، وإلا فقد أساء المسكين إلى نفسه من حيث أراد الإحسان إليها.
وإن في التاريخ لعبرا تؤثر عن أناس حاولوا مثل هذه المحاولة؛ فجاءوا في معارضة القرآن بكلام لا يشبه القرآن ولا يشبه كلام أنفسهم؛ بل نزلوا إلى ضرب من السخفوالتفاهة باد عواره، باق عاره وشناره: فمنهم عاقل استحيا أن يتم تجربته، فحطم قلمه ومزق صحيفته1.
ومنهم ماكر وجد الناس في زمنه أعقل من أن تروج فيهم سخافاته، فطوى صحفه وأخفاها إلى حين2. ومنهم طائش برز بها إلى الناس، فكان سخرية للساخرين ومثلا للآخرين3.
1 يعزى شيء من ذلك لابن المقفع، ولأبي الطيب، وللمعري، والظن بهؤلاء أنهم كانوا في غنى بعقولهم وأذواقهم عن الشروع في هذه المحاولة، إلا أن يكون على حد: {وَلَـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} .
2 من ذلك ما اشتهر عن تلك الكتب التي وضعها زعماء نحلتي "القاديانية" و"البهائية" لتكون دستورا دينيا لهم كالقرآن، وقد لفقوها تلفيقا ركيكا من آيات قرآنية وكلمات عامية، وبدلوا فيها أصول الإسلام وفروعه، وادعوا فيها لأنفسهم النبوة أو الألوهية،
ولكن أتباعهم لم يجسروا أن يذيعوا تلك الكتب وشمس العلم طالعة، فآخفوها -كما يخفي السنور سلحته- إلى أن يجيء وقت يفشو فيه الجهل بالعلوم والآداب، وتستعد فيه النفوس لقبول آمثالها. فلينتظروا آخر الدهر.
3 ذلك مثل مسيلمة الدجال، فقد زعم أنه يوحى إليه بكلام مثل القرآن، وما صنع شيئا إلا أنه كان يعمد إلى آي من القرآن فيسرق أكثر ألفاظها ويبدل بعضا، كقوله: "إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وجاهر" أو جيء على موازين الكلمات القرآنية بألفاظ سوقية ومعاني سوقية، كقوله: "والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا"
وهكذا لم يستطع وهو عربي قح أن يحتفظ بأسلوب نفسه، بل نزل إلى حد الإسفاف، وأتى العبث الذي يأتيه الصبيان في مداعبتهم وتفكههم بقلب الأشعار والأغاني عن وجهها،
ولا يخفى أن هذا كله ليس من المعارضة في شيء، بل هو المحاكاة والإفساد، وما مثله إلا كمثل من يستبدل بالإنسان تمثالا لا روح فيه، وهو على ذلك تمثال ليس فيه شيء من جمال الفن، وإنما المعارضة أن تعمد إلى معنى من المعاني فتؤديه نفسه بأسلوب آخر يوازي الأصل في بلاغته أو يزيد.
ومن يحاول ذلك في المعاني القرآنية فإنما يحاول محالا، والتجربة أصدق شاهد. بل من يحاول أن يجيء بمثل أسلوب القرآن في معاني أخرى لا يتحرى فيها الصدق والحكمة، فقد طمع في غير مطمع، ولذا كان من طرق التحدي للعرب أن طولبوا بعثر سور مثله {مفتريات} [سورة هود: 13]
هذا؛ والذي نفهمه في أمر مسيلمة هو ما فهمه الأديب الرافعي: أنه لم يرد أن يعارض القرآن من ناحية الصناعة البيانية، إذ كانت هذه الناحية أوضح من أن يلتبس أمرها عليه، أو أن يستطيع تلبيسها على أحد من العرب،
وإنما أراد أن يتخذ سبيله إلى استهواء قومه من ناحية أخرى ظنها أهون عليه وأقرب تأثيرا في نفوسهم، ذلك أن رأى العرب تعظم الكهان في الجاهلية،
وكانت عامة أساليب الكهان من هذا السجع القلق الذي يزعمون أنه من كلام الجن، كقولهم "يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله -البخاري في المناقب: إسلام عمر" فكذلك جعل يطبع مثل هذه الأسجاع في محاكاة القرآن؛
ليوهمهم أنه يوحى إليه كما يوحى إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- كأنما النبوة والكهانة ضرب واحد، على أنه لم يفلح في هذه الحيلة أيضا، فقد كان كثيرون من أشياعه يعرفونه بالكذب والحماقة، ويقولون:
إنه لم يكن في تعاطيه الكهانة حاذقا، ولا في دعواه النبوة صادقا، وإنما كان اتباعهم إياءه كما قال قائلهم: "كذاب ربيعة أحب إلينا عن صادق مضر". فمن حدثته نفسه أن يعيد هذه التجربة مرة أخرى فلينظر في تلك العبر وليأخذ بأحسنها، ومن لم يستح فليصنع ما يشاء.
"الشبهة الثانية" شبهة أديب متواضع ينسب هذه القدرة إلى غيره من الفحول:
وأما إن كان مدخل الشبهة عنده أنه رأى في الناس من هو أعلى منه كعبا في هذه الصناعة، فقال في نفسه: "لئن لم أكن أنا من فرسان هذا الميدان، ولم يكن لي في معارضة القرآن يدان، لعل هذا الأمر يكون يسيرا على من هو أفصح مني لسانا وأسحر بيانا"
فمثل هذا نقول له: ارجع إلى أهل الذكر من أدباء عصرك فاسألهم هل يقدرون أن يأتوا بمثله؟ فإن قالوا لك: "لو نشاء لقلنا مثل هذا" فقل: "هاتوا برهانكم! "
وإن قالوا: "لا طاقة لنا به" فقل: أي شيء أكبر من العجز شهادة على الإعجاز؟
ثم ارجع إلى التاريخ فاسأله: ما بال القرون الأولى؟ ينبئك التاريخ أن أحدا لم يرفع رأسه أمام القرآن في عصر من أعصاره، وأن بضعة النفر الذين أنغضوا رءوسهم إليه باءوا بالخزي والهوان، وسحب الدهر على آثارهم ذيل النسيان.
أجل، لقد سجل التاريخ هذا العجز على أهل اللغة أنفسهم في عصر نزول القرآن، وما أدراك ما عصر نزول القرآن؟ هو أزهى عصور البيان العربي، وأرقى أدوار التهذيب اللغوي،
وهل بلغت المجامع اللغوية في أمة من الأمم ما بلغته الأمة العربية في ذلك العصر من العناية بلغتها، حتى أدركت هذه اللغة أشدها؛ وتم لهم بقدر الطاقة البشرية تهذيب كلماتها وأساليبها؟ ..
وما هذه الجموع المحشودة في الصحراء، وما هذه المنابر المرفوعة هنا وهناك؟ إنها أسواق العرب تعرض فيها أنفس بضائعهم وأجود صناعاتهم؛ وما هي إلا بضاعة الكلام، وصناعة الشعر والخطابة،
يتبارون في عرضها ونقدها، واختيار أحسنها والمفاخرة بها، ويتنافسون فيها أشد التنافس، يستوي في ذلك رجالهم ونساؤهم، وما أمر حسان والخنساء وغيرهما بخاف على متأدب.
فما هو إلا أن جاء القرآن.. وإذا الأسواق قد انفضت، إلا منه، وإذا الأندية قد صفرت، إلا عنه، فما قدر أحد منهم أن يباريه أو يجاريه، أو يقترح فيه إبدال كلمة بكلمة، أو حذف كلمة أو زيادة كلمة، أو تقديم واحدة وتأخير أخرى؛
ذلك على أنه لم يسد عليهم باب العارضة بل فتحه على مصراعيه، بل دعاهم إليه أفرادا أو جماعات. بل تحداهم وكرر عليهم ذلك التحدي في صور شتى، متهكما بهم متنزلا معهم إلى الأخف فالأخف:
فدعاهم أول مرة أن يجبئوا بمثله، ثم دعاهم أن يأتوا بعشر سور مثله، ثم أن يأتوا بسورة واحدة مثله، ثم بسورة واحدة من مثله1،
وأباح لهم في كل مرة أن يستعينوا بمن شاءوا ومن استطاعوا، ثم رماهم والعالم كله بالعجز في غير مواربة؛ فقال:
{لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} الإسراء: ٨٨
{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ } البقرة: ٢٤
فانظر أي إلهاب، وأي استفزاز! لقد أجهز عليهم بالحكم البات المؤبد في قوله {وَلَن تَفْعَلُوا } ثم هددهم بالنار، ثم سواهم بالأحجار، فلعمري لو كان فيهم لسان يتحرك لما صمتوا عن منافسته وهم الأعداء الألداء، وأباة الضيم الاعزاء،
وقد أصاب منهم موضع عزتهم وفخارهم، ولكنهم لم يجدوا ثغرة ينفذون منها إلى معارضته، ولا سلما يصعدون به إلى مزاحمته،
بل وجدوا أنفسهم منه أمام طود شامخ، فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا ... حتى إذا استيأسوا من قدرتهم واستيقنوا عجزهم ما كان جوابهم إلا أن ركبوا متن الحتوف، واستنطقوا السيوف بدل الحروف. وتلك هي الحيلة التي يلجأ إليها كل مغلوب في الحجة والبرهان، وكل من لا يستطيع دفعا عن نفسه بالقلم واللسان.
1 انظر كيف تنزل معهم في هذه المرتبة من طلب المماثل إلى طلب شيء مما يماثل كأنه يقول: لا أكلفكم بالمماثلة العامة؛ بل حسبكم أن تأتوا بشيء فيه جنس المماثلة ومطلقها، ربما يكون مثلا على التقريب لا التحديد. وهذا أقصى ما يمكن من التنزل، ولذا كان هو آخر صيغ التحدي نزولا، فلم يجئ التحدي بلفظ "من مثله" إلا في سورة البقرة المدنية،
وسائر المراتب بلفظ "مثله" في السور التي نزلت قبل ذلك بمكة؛ فتأمل هذا الفرق فإنه طريف. وأسأل الله أن يوفقنا وإياك لفهم أسرار كتابه، والانتفاع بهدايته وآدابه.
ومضى عصر القرآن والتحدي قائما فليجرب كل امرئ نفسه، وجاء العصر الذي بعده، وفي البادية وأطرافها أقوام لم تختلط أنسابهم، ولم تنحرف ألسنتهم، ولم تتغير سليقتهم، وفيهم من لو استطاعوا أن يأتوا هذا الدين من أساسه،
ويثبتوا أنهم قادرون من أمر القرآن على ما عجز عنه أوئلهم، لفعلوا، ولكنهم ذلت أعناقهم له خاضعين، وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل.
ثم مضت تلك القرون، وورث هذه اللغة عن أهلها الوارثون، غير أن هؤلاء الذين جاءوا من بعد، كانوا أشد عجزا وأقل طمعا في هذا المطلب العزيز.
فكانت شهادتهم على أنفسهم مضافة إلى شهادة التاريخ على أسلافهم، وكان برهان الإعجاز قائما أمامهم من طريقين: وجداني وبرهاني.. ولا يزال هذا دأب الناس والقرآن حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
"الشبهة الثالثة" شبهة القائل بأن عدم معارضة العرب لأسلوب القرآن ربما كان بسبب انصرافهم لا بسبب عجزهم:
فإن قال لنا: نعم، قد علمت أنه لم يأت أحد بشيء في معارضة القرآن، ولكن ليس كل ما لم يفعله الناس يكون خارجا عن حدود قدرتهم، فربما ترك الإنسان فعلا هو من جنس أفعاله الاختيارية لعدم قيام الأسباب التي من شأنها أن تبعث عليه،
أو لأن صارفا إلهيا ثبط همته وصرف إرادته عنه مع توافر الأسباب الداعية إليه، أو لأن عارضا فجائيا عطل آلاته وعاق قدرته عن إحداث ذلك الفعل بعد توجه إرادته نحوه،
فعلى الفرضين الأولين يكون عدم معارضة القرآن قلة اكتراث بشأنه لا عجزا عنالإتيان بمثله، وعلى الفرض الأخير يكون تركه عجزا عنه حقا، لكن ليس لمانع فيه من جهة علو طبقته عن مستوى القدرة البشرية،
بل لمانع خارجي هو حماية 1 القدرة العليا له، وصيانتها إياه عن معارضة المعارضين، ولو أزيل هذا المانع لجاء الناس بمثله. قلنا له: هذه الفروض كلها لا تنطبق على موضوعنا بحال.
أما الأول: فإن الأسباب الباعثة على المعارضة كانت موفورة متضافرة، وأي شيء أقوى في استثارة حمية خصمك من ذلك التقريع البليغ المتكرر الذي توجهه إليه معلنا فيه عجزه عن مضاهاة عملك؟
إن هذا التحدي كاف وحده في إثارة حفيظة الجبان وإشعال همته للدفاع عن نفسه بما تبلغه طاقته، فكيف لو كان الذي تتحداه مجبولا على الأنفة والحمية؟
وكيف لو كان العمل الذي تتحداه به هو صناعته التي بها يفاخر، والتي هو فيها المدرب الماهر؟ وكيف لو كنت مع ذلك ترميه بسفاهة الرأي وضلال الطريق؟
وكيف لو كنت تبتغي من وراء هذه الحرب الجدلية هدم عقائده، ومحو عوائده وقطع الصلة بين ماضيه ومستقبله؟
وأما الثاني: فإن هذه الأسباب قد رأيناها آتت بالفعل ثمراتها، وأيقظت همم المعارضين إلى أبعد حدودها. حتى كان أمر محمد -صلى الله عليه وسلم- والقرآن هو شغلهم الشاغل، وهمهم الناصب،
1 هذا هو القول بالصرفة، الذي اشتهر عن النظام من المعتزلة، وهو وإن كان اعترافا في الجملة بصحة الإعجاز إلا أنه يقول به إلا أعجمي أو شبهه ممن لم يذق للبلاغة طعما، ولذلك لم يتابعه عليه تلميذه الجاحظ ولا أحد من علماء العربية، وهو يعد خلاف ما عرفه العرب من أنفسهم كما سنبينه.
2 جاء رجال من قريش إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا له: يا محمد تعال تمسح بآلهتنا، أو ألم بآلهتنا، وندخل معك في دينك، فنزل قوله تعالى:
{وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الإسراء: ٧٣
فلم يدعوا وسيلة من الوسائل لمقاومته باللطف أو بالعنف إلا استنبطوها وتذرعوا بها: أيخادعونه عن دينه ليلين لهم ويركن قليلا إلى دينهم2 أم يساومونه بالمال والملك ليكف عن دعوته1، أم يتواصون بمقاطعته، وبحبس الزاد عنه وعن عشيرته الأقربين حتى يموتوا جوعا أو يسلموه2،
أم يمنعون صوت القرآن أن يخرج من دور المسلمين خشية أن يسمعه أحد من أبنائهم3، أم يلقون فيه الشبهات والمطاعن، أم يتهمون صاحبه بالسحر والجنون ليصدوا عنه من لا يعرفه من القبائل القادمة في المواسم، أم يمكرون به ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه4،
أم يخاطرون بمهجهم وأموالهم وأهليهم في محاربته، أفكان هذا كله تشاغلا عن القرآن وقلة عناية بشأنه؟! ثم لماذا كل هذا وهو قد دلهم على أن الطريق الوحيد لإسكاته هو أن يجيئوه بكلام مثل الذي جاءهم به؟
ألم يكن ذلك أقرب إليهم وأبقى عليهم لو كان أمره في يدهم؟ ولكنهم طرقوا الأبواب كلها إلا هذا الباب، وكان القتل والأسر والفقر والذل كل أولئك أهون عليهم من ركوب هذا الطريق الوعر الذي دلهم عليه. فأي شيء يكون العجز إن لم يكن هذا هو العجز.
لا ريب أن هذه الحملات كلها لم تكن موجهة إلى شخص النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فقد كانوا من قبل تعطفهم عليهم أرحامهم، وتحببهم إليهم مكارم أخلاقهم.
1 إيماء إلى القصة الطويلة التي نزلت فيها قوله تعالى: {وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا} الإسراء: ٩٠ رواها ابن جرير بسند متصل فيه مبهم، ولها شاهد مرسل صحيح.
2 إيماء إلى خبر الصحيفة الجائرة التي تحالفت فيها قريش وكنانة على بني هاشم وبني المطلب ألا يناكحوهم، ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله. رواه الشيخان عن الزهري، وفي شأن هذه المحالفة يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة الفتح وفي حجة الوداع: "منزلنا غدا إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر" رواه الشيخان،
انظر صحيح البخاري عن أبي هريرة، ك/ الحج، ب/ نزول النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة "1487"، ومسلم عن أبي هريرة، ك/ الحج، ب/ استحباب النزول بالمحصب يوم النفرة والصلاة "2316".
3 لم يطق أشراف قريش أن يستعلن أبو بكر بقراءة القرآن في فناء داره إذ كانت تهوى إليه أفئدة من أبنائهم ونسائهم وعبيدهم يستمعون لقراءته، فخشي المشركون أن يفتتنوا، وكان ابن الدغنة قد أجار أبا بكر، فأمروه أن يسترد جواره منه إذا أصر على الإعلان بقراءته. وقد فعل. الحديث رواه البخاري، ك/ الحوالات، ب/ جوار أبي بكر "2134".
لم تكن موجهة إلى القرآن في الصدور ولا في داخل البيوت؛ فقد قبلوا منهم أن يعبد كل امرئ ربه في بيته كيف يشاء. إنما كانت مصوبة إلى هدف واحد، ومقاومة لخطر واحد، هو إعلان1 هذا القرآن ونشره بين العرب.
ولا يهجسن في روعك أنهم ما نقموا من الإعلان بالقرآن إلا أنه دعوة جديدة إلى دين جديد فحسب. كلا، فقد كان في العرب حنفاء من فحول الخطباء والشعراء؛ كقس بن ساعدة، وأمية بن أبي الصلت، وغيرهما،
وكانت خطبهم وأشعارهم مشحونة بالدعوة إلى ما دعا إليه القرآن من دين الفطرة. فما بالهم قد أهمهم من أمر محمد وقرآنه ما لم يعنهم من أمر غيره؟
ما ذاك إلا أنهم وجدوا له شأنا آخر لا يشبه شأن الناس، وأنهم أحسوا في قرأنه قوة غلابة وتيارا جارفا يريد أن يبسط سلطانه حيث يصل صدى صوته، وأنهم لم يجدوا سبيلا لمقاومته عن طريق المعارضة الكلامية التي هي هجيراهم،
والتي هي الطريق المباشر الذي تحداهم به، فلا جرم كان الطريق الوحيد عندهم لمقاومته هو الحيلولة بمختلف الوسائل بين هذا القرآن وبين الناس مهما كلفهم ذلك من تضحية، وكذلك فعلوا، وكذلك مضت السنة فيمن بعدهم من أعداء القرآن إلى يومنا هذا.
وأما الثالث: فإنه لو كان عجزهم عن مضاهاة القرآن لعارض أصابهم حال بينهم وبين شيء في مقدورهم، لما استبان لهم ذلك العجز إلا بعد أن يبسطوا ألسنتهم إليه، ويجربوا قدرتهم عليه؛
لأنه ما كان لامرئ أن يحس بزوال قدرته عن شيء كان يقدر عليه كقدرته على القيام والقعود إلا بعد محاولة وتجربة، ونحن قد علمنا أنهم قعدوا عن هذه التجربة، ولم يشرع منهم في هذه المحاولة إلا أقلهم عددا، وأسفههم رأيا.
فكان ذلك آية على بأسهم الطبيعي من أنفسهم، وعلى شعورهم بأن عجزهم عنهم عجز فطري عتيد، كعجزهم عن إزالة الجبال، وعن تناول النجوم من السماء، وأنهم كانوا في غنى بهذا العلم الضروري عن طلب الدليل عليه بالمحاولات والتجارب.
1 وفي ذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما كان يعرض نفسه على الناس في الموقف: " "ألا رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي" رواه أبو داود والترمذي.
فانظر قوله: "منعوني أن أبلغ" ولم يقل منعوني أن "أتلو"، رواه الترمذي عن جابر، ك/ فضائل القرآن، ب/ ما جاء كيف كانت قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- "2849"، وأبو داود عن جابر بن عبد الله، ك/ السنة، ب/ في القرآن "4109".
على أنهم لو كانوا لم يعرفوا عجزهم عنه بادئ ذي بدء، وإنما أدركهم العجز بعد شعورهم بأنه في مستوى كلامهم، لكان عجبهم إذا من أنفسهم: كيف عيوا به وهو منهم على طرف الثمام؟
ولجعلوا يتساءلون فيما بينهم أي داء أصابنا فعقد ألسنتنا عن معارضة هذا الكلام هو ككل كلام؟ أو لرجعوا إلى بيانهم القديم قبل أن يصيبهم العجز فجاءوا بشيء منه في محاذاته،
ولكنهم لم يجيئوا فيه بقديم ولا جديد، وكان القرآن نفسه هو مثار عجبهم وإعجابهم، حتى إنهم كانوا يخرون سجدا لسماعه من قبل أن تمضي مهلة يوازنون فيها بينه وبين كلامهم،
بل إن منهم من كان يغلبه هذا الشعور فيفيض على لسانه اعترافا صحيحا: "ما هذا بقول بشر".
"الشبهة الرابعة" شبهة من قد يظن أن القرآن إن كان معجزا فليس إعجازه من ناحيته اللغوية؛ لأنه لم يخرج عن لغة العرب في مفرداته ولا في قواعد تركيبه:
فإن قال: قد تبينت الآن أن سكوت الناس عن معارضة القرآن كان عجزا، وأنهم وجدوا في طبيعة القرآن سرا من أسرار الإعجاز يسمو به عن قدرتهم.
ولكني لست أفهم أن ناحيته اللغوية يمكن أن تكون من مظان هذ السر؛ لأني أقرأ القرآن فلا أجده يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية: فمن حروفهم ركبت كلماته.
ومن كلماتهم ألفت جمله وآياته، وعلى مناهجهم في التأليف جاء تأليفه، فأي جديد في مفردات القرآن لم يعرفه العرب من موادها وأبنيتها؟
وأي جديد في تركيب القرآن لم تعرفه العرب من طرائقها ولم تأخذ به في مذاهبها، حتى نقول: إنه قد جاءهم بما فوق طاقتهم اللغوية؟
قلنا له: أما أن القرآن الكريم لم يخرج في لغته عن سنن العرب في كلامهم إفرادا وتركيبا فذلك في جملته حق لا ريب فيه، وبذلك كان أدخل في الإعجاز، وأوضح في قطع الأعذار
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ۖ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ۗ } فصلت: ٤٤
وأما بعد، فهل ذهب عنك أن مثل صنعة البيان كمثل صنعة البنيان، فالمهندسون البناءون لا يخلقون مادة بناء لم تكن في الأرض، ولا يخرجون في صنعتهم عن قواعدها العامة، ولا يعدو ما يصنعونه أن يكون جدرانا مرفوعة،
وسقفا موضوعة، وأبوابا مشرعة، ولكنهم تتفاضل صناعاتهم وراء ذلك في اختيار أمتن المواد وأبقاها على الدهر، وأكنها للناس من الحر والقر، وفي تعميق الأساس وتطويل البنيان، وتخفيف المحمول منها على حامله، والانتفاع بالمساحة اليسيرة في المرافق الكثيرة، وترتيب الحجرات والأبهاء،
بحيث يتخللها الضوء والهواء، فمنهم من يفي بذلك كله أو جله، ومنهم من يخل بشيء منه أو أشياء.. إلى فنون من الزينة والزخرف يتفاوت الذوق الهندسي فيها تفاوتا بعيدا.
كذلك ترى أهل اللغة الواحدة يؤدون الغرض الواحد على طرائق شتى يتفاوت حظها في الحسن والقبول، وما من كلمة من كلامهم ولا وضع من أوضاعهم بخارج عن مواد اللغة وقواعدها في الجملة.
ولكنه حسن الاختيار في تلك المواد والأوضاع قد يعلو بالكلام حتى يسترعي سمعك، ويثلج صدرك، ويملك قلبك. وسوء الاختيار في شيء من ذلك قد ينزل به حتى تمجه أذنك، وتغشى منه نفسك، وينفر منه طبعك.
ذلك أن اللغة فيها العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، وفيها العبارة والإشارة والفحوى والإيماء، وفيها الخبر والإنشاء، وفيها الجمل الاسمية والفعلية، وفيها النفي والإثبات، وفيها الحقيقة والمجاز، وفيها الإطناب والإيجاز، وفيها الذكر والحذف، وفيها الابتداء والعطف، وفيها التعريف والتنكير، وفيها التقديم والتأخير، وهلم جرا..
ومن كل هذه المسالك ينفذ الناس إلى أغراضهم، غير ناكبين بوضع منها عن أوضاع اللغة جملة، بل في شعابها يتفرقون، وعند حدودها يلتقون.
بيد أنه ليس شيء من هذه المسالك بالذي يحمل في كل موطن، وليس شيء منها بالذي يقبح في كل موطن، إذا لهان الأمر على طالبه، ولأصبحت البلاغة في لسان الناس طعما واحدا، وفي سمعهم نغمة واحدة.
كلا، فإن الطريق الواحد قد يبلغك مأمنك حينا، ويقصر بك عن غايتك حينا آخر، ورب كلمة تراها في موضع كالخرزة الضائعة ثم تراها بعينها في موضع آخر، كالدرة اللامعة.
فالشأن إذا في اختيار هذه الطرق أيها أحق بأن يسلك في غرض غرض، وأيها أقرب توصيلا إلى مقصد مقصد؛ ففي الجدال أيها أقوم بالحجة، وأدحض للشبهة،
وفي الوصف أيها أدق مثيلا للواقع، وفي موطن اللين أيها أخف على الأسماع وأرفق بالطباع، وفي موطن الشدة أيها أشد اطلاعا على الأفئدة بتلك النار الموقدة، وعلى الجملة أيها أوفى بحاجات البيان وأبقى بطراوته على الزمان.
والأمر في هذا الاختيار عسير غير يسير؛ لأن مجال الاختيار كثير الشعب، مختلف الألوان في صور المفردات والتراكيب، والناس ليسوا سواء في استعراض هذه الألوان، فضلا عن الموازنة بينها،
فضلا عن حسن الاختيار فيها، فرب رجلين يهتدي أحدهما إلى ما غفل عنه صاحبه، ويغفل كل منهما عما هدي إليه الآخر، ورب وجه واحد يفوتك ها هنا يعدل وجهين تحصلهما هناك، أو بالعكس.
وعن جملة الملاحظات التي يلاحظها القائل في قوله، تتولد صورة خاصة مثلها في هذه المركبات المعنوية مثل "المزاج" في تلك المركبات العنصرية المادية، وهذا "المزاج" هو الذي نسميه بالأسلوب أو الطريقة، وعلى حسبه يقع التفاوت فيدرجات الكلام وفي حظه من الحسن والقبول.
فالجديد في لغة القرآن أنه في كل شأن يتناوله من شئون القول يتخير له أشرف المواد، وأمسها رحما بالمعنى المراد، وأجمعها للشوارد، وأقبلها للامتزاج، ويضع كل مثقال ذرة في موضعها الذي هو أحق بها وهي أحق به،
بحيث لا يجد المعنى في لفظه إلا مرآته الناصعة، وصورته الكاملة، ولا يجد اللفظ في معناه إلا وطنه الأمين، وقراره المكين. لا يوما أو بعض يوم، بل على أن تذهب العصور وتجيء العصور،
فلا المكان يريد بساكنه بدلا، ولا الساكن يبغي عن منزله حولا.. وعلى الجملة يجيئك من هذا الأسلوب بما هو المثل الأعلى في صناعة البيان.
هذا مطلب له دليله، وإجمال له تفصيله، وليس من قصدنا أن نعجلك الآن بالبحث في أدلته وتفاصيله، وإنما أردنا أن نزيح عنك هذه الشبهة لتعلم أن ليس كل كلام عربي ككل كلام عربي، وأن هذه الناحية اللغوية جديرة بأن تتافوت فيها القوى نازلة إلى حد العجز، أو صاعدة إلى حد الإعجاز.
فإن أحببت أن تعرف للقرآن الكريم سبقه وبلوغه الغاية في هذا المضمار وأنت بعد لم ترزق قوة الفصل بين درجات الكلام فاعلم أنه لا سبيل لك إلى القضاء في هذا الشأن عن حس وخبرة،
وإنما سبيلك أن تأخذ حكمه مسلما عن أهله وتقنع فيه بشهادة العارفين به، وإذا يكون من حقك علينا أن نقدم لك مثالا من شهاداتهم، فخذ الآن هذا المثال:
جاء الوليد بن المغيرة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما قرأ عليه القرآن كأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال له: يا عم، إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتتعرض لما قبله، قال الوليد: لقد علمت قريش أني من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له وكاره، قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكمرجل أعلم مني بالشعر لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقوله شيئا من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمنير أعلاه، مشرق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته …
الحديث1 رواه عن ابن عباس، وقال: صحيح على شرط البخاري.
نعم، إن كنت لا تفرق بين كلام وكلام فهذه شهادة حسبك من شهادة، وناهيك أنها شهادة أهل اللغة أنفسهم، بل شهادة الأعداء لعدوهم.وإذا لم تر الهلال فسلم ... لأناس رأوه بالأبصار
وأما إن كنت قد أوتيت حظك من معرفة فروق الكلام والميز بين أساليبه فاقرأ ما شئت من خطب العرب وأشعارها، وحكمها وأمثالها، ورسائلها ومحاوراتها، متتبعا في ذلك عصور الجاهلية والإسلام على اختلاف طبقاتها، ثم افتح صفحة من هذا الكتاب العزيز وانظر ماذا ترى؟
أسلوب عجب، ومنهج من الحديث فذ مبتكر، كأن ما سواه من أوضاع الكلام منقول، وكأنه بينها على حد قول بعض الأدباء: "وضع مرتجل" لا ترى سابقا جاء بمثاله، ولا لاحقا طبع على غراره، فلو أن آية منه جاءتك في جمهرة من أقوال البلغاء
لدلت على مكانها. واستمازت من بينها، كما يستميز اللحن الحساس بين ضروب الألحان، أو الفاكهة الجديدة بين ألوان الطعام.
1 للحديث بقية، وهي أن أبا جهل ألح على الوليد، وقال له: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. فقال الوليد: دعني أفكر. فلما فكر قال: هذا سحر يأثره عن غيره، وفي ذلك نزل قوله تعالى:
(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ﴿١١﴾ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا ﴿١٢﴾ وَبَنِينَ شُهُودًا ﴿١٣﴾ وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ﴿١٤﴾ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ﴿١٥﴾ كَلَّا ۖ إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا ﴿١٦﴾ سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ﴿١٧﴾ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ﴿١٨﴾ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴿١٩﴾ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴿٢٠﴾ ثُمَّ نَظَرَ ﴿٢١﴾ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ﴿٢٢﴾ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ﴿٢٣﴾ فَقَالَ إِنْ هَـٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴿٢٤﴾ إِنْ هَـٰذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴿٢٥﴾ ) المدثر : 11 -25
فانظر تصوير القرآن للجهد العنيف الذي بذله الرجل في إصدار حكمه الثاني، حيث يقول: إنه فكر وقدر، ثم نظر، ثم عبس وبسر، ثم أدبر واستكبر، ومعنى هذا كله أنه كان يقاوم فطرته، ويستكره نفسه على مخالفة وجدانه، وأنه كان في حيرة وضيق بما يقول..
وأخيرا استطاع أن يقول ما قال نزولا على إرادة قومه. وانظر الفرق بين هذا الحكم المصطنع وبين حكم البديهة العربية في قوله أول مرة: إنه يعلو وما يعلى، وأنه يحطم ما تحته.
"الشبهة الخامسة" شبهة من يزعم أن عدم قدرة الناس على مجاراة أسلوب القرآن ليس خصوصية للقرآن؛ لأن أسلوب كل قائل صورة نفسه ومزاجه فلا يستطيع غيره أن يحل محله:
سيقول السائل إذا انتهى معنا إلى هذا الموضع: لقد أغلقتم عنا بهذا البيان بابا من الشك، ولكنكم لم تلبثوا أن فتحتم علينا منه بابا جديدا، ألم تقولوا لنا:
إن هذه الصناعة البيانية ليست في الناس بدرجة واحدة، وإن القوى تذهب فيه متفاوتة على مراتب شتى، فما نرى إذا علينا من حرج أن نعد الإعجاز الذي حدثتمونا عنه أمرا مشاعا يجري في أساليب الناس كما يجري في القرآن.
ألا ترون أن كل قائل أو كاتب إنما يضع في بيانه قطعة من عقله ووجدانه على الصورة التي تهديه إليها فطرته ومواهبه؟ وأن اختلاف الناس في هذه الوسائل يتبعه البتة اختلاف طرائقهم في التعبير عن أغراضهم؟ إنكم لتستطيعون أن تحصوا في اللغة العربية صورا كلامية بعدة الناطقين بها، بحيث لا تجدون كاتبا يكتب كما يكتب كاتب آخر على السواء، ولا قائلا كذلك. بل أنتم لا محالة واجدون عند كل واحد منهاجا خاصا في الأداء؛ فليس البدوي كالحضري، ولا الذكي كالغبي. وليس الطائش كالحليم، ولا المريض كالسليم.
وليس الأدنى في هذا الباب يستطيع الصعود إلى الأعلى، ولا الأعلى يستطيع النزول إلى الأدنى. بل المتشابهان فطرة ومزاجا، المتساويان تربية وتعليما قد يشربان من كأس واحدة ثم لا يتناطقان بالكلام على صورة واحدة.
فكيف تأمرون الناس أن يجيئوكم بمثل القرآن وهم لا يقدرون أن يجيء بعضهم بمثل كلام بعض؟ وكيف تعدون عجزهم عنه آية على قدسيته وأنتم لا تعدون عجز كل امرئ عن الإتيان بأسلوب غيره آية على أن ذلك الأسلوب صنع إلهي محض لا كسب فيه للذي جرى على لسانه؟
أليس هذا القياس يسوغ لنا أن نفترض القرآن كلاما بشريا كسائر كلام البشر، غير أنه اختص أسلوبه بصاحبه كما اختص كل امرئ بأسلوب نفسه؟
وجوابنا لهذا القائل أن نقول له: لسنا نماريك في أن كلام المتكلم إنما هو صورة تمليها عليه فطرته ومواهبه، ولا في أن هذه الفطر والمواهب لتفاوتها عند أكثر الناس لا بد أن تترك أثرها من التفاوت في صورة كلامهم،
ولا في أن تلك الفطر والمواهب إن تشابهت عند فريق من الناس فأملت عليهم صورا متشابهة من القول فإنها لا تخرجها في عامة الأمر صورة واحدة.
كل هذا نسلمه ولا ننكره، ولكنه لا يضرنا ولا يوهن شيئا من حجتنا؛ ذلك أننا حين نتحدى الناس بالقرآن لا نطالبهم أن يجيئونا بنفس صورته الكلامية، كلا، ذلك ما لا نطمع فيه، ولا ندعو المعارضين إليه،
وإنما نطلب كلاما أيا كان نمطه ومنهاجه، على النحو الذي يحسنه المتكلم أيا كانت فطرته ومزاجه، بحيث إذا قيس مع القرآن بمقياس الفضيلة البيانية حاذاه أو قاربه في ذلك المقياس وإن كان على غير صورته الخاصة،
فالأمر الذي ندعوهم إلى التماثل أو المقاربة فيه هو هذا القدر الذي فيه يتنافس البلغاء، وفيه يتماثلون أو يتقاربون.
وذلك غير المعارض والصور المعينة التي لا بد من الاختلاف فيها بين متكلم ومتكلم.
فإن عسر عليك أن تفهم كيف تجيء المماثلة مع هذا الاختلاف ضربنا لك مثلا؛ قوما يستبقون إلى غاية محدودة، وقد اتخذوا لذلك مجالا واسعا لا يزاحم بعضهم فيه بعضا، ولايضع أحدهم قدمه على موضع قدم صاحبه، بل جعل كل منهم يذهب في طريقه الخاص به موازيا لقرنه في المبدأ والوجهة.
ثم يكون منهم المجلي والمصلي، والمقفي والتالي، ويكون منهم من لا حظ له في الرهان. ويكون منهم المتكافئون المتعادلون.
وهكذا تراهم وهم مختلفو المنازل يقع بينهم التماثل كما يقع بينهم التفاضل بنسبة ما قطعه كل منهم من طريقه إلى الغاية المشتركة.
فكذلك المتنافسون في حلبة البيان يعمد كل منهم إلى الغرض من الطريق التي يرضاها، وعلى الوجه الذي يستمليه من نفسه، ثم يقع بينهم التماثل أو التفاضل على قدر ما يوفون من حاجة البيان أو ينقصون منها، وإن اختلفت المذاهب التي انتحاها كل منهم.
هب -إذا- المدعوين لمعارضة القرآن فيهم الأكفاء والأنداء لنبي القرآن في الفطرة والسليقة العربية، أو من هم أكمل منه فيها، أو هبهم جميعا دونه في تلك المنزلة.
فأما الأعلون فسيجيئون على وفق سليقتهم بقول أحسن من قوله. وأما الأنداد فسيجيئون بشيء مثله. وأما الآخرون فلن يكبر عليهم أن يقاربوا ويجيئوا بشيء من مثله1،
وشيء من هذه المراتب الثلاث2 لو تم لكان كافيا في رد الحجة وإبطال التحدي.
ستقول: بل أختار الواقع، وهو أن العرب على اختلاف مراتبهم في البيان لم يرتفعوا إلى طبقة البلاغة المحمدية، وأزعم أن هذا القصور الذاتي الذي قعد بهم عن مجاراته في عامة كلامه هو الذي قعد بهم عن معارضة قرآنه.
وإذا لا يكون هذا العجز حجة لكم على قدسية الأسلوب القرآني كما لم يكن حجة عندكم على قدسية الأسلوب النبوي.
فنجيب: أما أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- كان هو أفصح العرب، وكان له في هذه الفضيلة البيانية المقام الأول بينهم غير مزاحم، فذلك ما لا نماري -بل لا نمتري- فيه نحن ولا أحد ممن يعرف العربية،
غير أننا نسأل ما مبلغ هذا التفاوت الذي كان بينهم وبينه؟ أكان مما يتفق مثله في مجاري العادات بين بعض الناس وبعض في حدود القوة البشرية، أم كان أمرا شاذا خارقا للعادة بالكلية؟
1 لا تنس ما قررناه في الفرق بين هذه الطبقة والتي قبلها ص78.
2 غر أن المرتبة الأولى مسكوت عنها في القرآن الكريم استقصارا لهممهم، واكتفاء بتعجيزهم عما
فأما إن كان كما نعهد شبيها بما يكون في العادة بين البليغ والأبلغ، وبين الحسن والأحسن، فلا شك أن هذا النحو من العلو إن حال بينهم وبين المجيء بمثل كلامه كله لم يكن ليحول بينهم وبين قطعة واحدة منه،
ولئن أعجزهم هذا القدر اليسير أن يحتذوه على التمام لم يكن ليعجزهم أن ينزلوا منه بمكان قريب. ألا وإننا قد أرخينا لهم العنان في معارضة القرآن بهذا أو ذاك، وأغمضنا لهم فيما يجيئوننا به أن يكون كلا أو بعضا، وكثيرا أو يسيرا، ومماثلا أو قريبا من المماثل، فكان عجزهم عن ذلك كله سواء.
وأما إن قيل: إن التفاوت بينه عليه السلام وبين سائر البلغاء كان إلى حد انقطاع صلتهم به جملة؛ لاختصاصه من بين العرب ومن بين الناس بفطرة شاذة لا تنتسب إلى سائر الفطر في قليل ولا كثير إلا كما تنتسب القدرة إلى العجز،
أو الإمكان إلى الاستحالة، فلا شك أن القول بذلك هو أخو القول بأن الإنسان ما ليس بإنسان، أو هو التسليم بأن ما يجيء به هذا الإنسان لا يكون من عمل الإنسان؛ ذلك أن الطبيعة الإنسانية العامة واحدة،
والطبائع الشخصية تقع فيها الأشباه والأمثال في الشيء بعد الشيء وفي الواحد بعد الواحد؛ إن لم يكن ذلك في عصر ففي عصور متطاولة، وإن لم يكن في كل فنون الكلام ففي بعض فنونه. وكم رأينا من أناس كثيرة تتشابه قلوبهم وعقولهم وألسنتهم فتتوافق خواطرها وعباراتهم حينا، وتتقارب أحيانا،
حتى لقد يخيل إليك أن الروح الساري في القولين روح واحد، وأن النفس ها هنا هو النفس هناك. وكذلك رأينا من الأدباء المتأخرين من يكتب بأسلوب ابن المقفع وعبد الحميد، ومن يكتب بأسلوب الهمذاني والخوارزمي، وهلم جرا.
فلو كان أسلوب القرآن من عمل صاحبه الإنسان لكان خليقا أن يجيء بشيء من مثله من كان أشبه بهذا الإنسان مزاجا، وأقرب إليه هديا وسمتا، وألصق به رحما، وأكثر عنه أخذا وتعلما،
أو لكان جديرا بأصحابه الذين نزل القرآن بين أظهرهمفقرأوه واستظهروه؛ وتذوقوا معناه وتمثلوه، وترسموا خطواته واغترفوا من مناهله -أن يدنوا أسلوبهم شيئا من أسلوبه على ما تقضي به غريزة التأسي، وشيمة نقل الطباع من الطباع، ولكن شيئا من ذلك كله لم يكن،
وإنما كان قصارى فضل البليغ فيهم كما هو جهد البليغ فينا أن يظفر بشيء يقتبسه منه في تضاعيف مقالته ليزيدها به علوا ونباهة شأن.
بل نقول: لو كان الأسلوب القرآني صورة لتلك الفطرة المحمدية لوجب على قياس ما أصلته من المقدمات أن ينطبع من هذه الصورة على سائر الكلام المحمدي ما انطبع منها على أسلوب القرآن؛ لأن الفطرة الواحدة لا تكون فطرتين، والنفس الواحدة لا تكون نفسين1
1 هنا موضع سؤال، فكأننا بقائل يقول لنا: إنه ليس بدعا من الأمر أن يكون للرجل البليغ ضربان من الكلام: أحدهما: يجيئه على البديهة فيرسله إرسالا غير معني بتهذيبه وتجبيره،
والآخر: يتأتى له بالروية ويحتفل به احتفالا يجعل بينه وبين الضرب الأول بعدا شاسعا يخيل للسامع أنه قول شخص آخر مع صدور القولين عن قائل واحد. فهلا طبقتم هذا المثل في الكلام المحمدي فجعلتم حديثه من الضرب الأول وقرآنه من الضرب الثاني؟
والجواب: أن توزيع هذين الضربين على الحديث والقرآن توزيع لا يتفق والواقع في شيء؛ فقد كان أكثر الوحي القرآني يجيء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن لم يسبق عهد به ولم يتقدم منه تفكير فيه، بل كان يفاجئه من فوره على غير توقع وانتظار؛ جوابا لسؤال سائل،
أو فتيا في حادثة نزلت، أو قصصا عن أمة مضت، أو ما إلى ذلك، وقليلا ما كان يجيئه بعد تشوف وتلبث تمكن فيه الروية، كما في مسألة الإفك ومسألة تحويل القبلة، وقد رأينا أسلوبه في كلتا الحالين، فإذا نسقه هو نسقه ونظامه هو نظامه،
، وكذلك نقول: إن كلامه النبوي كانت تختلف عليه هذه الظروف ويتحد فيها أسلوبه، فقد كان يتكلم أحيانا بعد تفكير طويل وروية وتشاور مع أصحابه كما رأينا من حديثه في مسألة الإفك،
وكما نرى من حديثه بعد التشاور في شئون الحرب والصلح ونحوها، وأحيانا بعد تلبث بسير؛ انتظارا للوحي كما في قصة الرجل الذي جاء في الجعرانة سنة ثمان فسأل عن العمرة وهو متضمخ بالطب وعليه جبة،
فنظر إليه النبي ساعة، ثم سكت، حتى جاءه الوحي، فلما سري عنه قال: "أين السائل عن العمرة"؟ فجيء به، فقال -صلى الله عليه وسلم: "أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك" رواه الشيخان.
وأخرى كان يتكلم على البديهة فيما لا يشكل عليه أمره مما سبقت به قضية العقل أو الدين، وهو في كل ذلك يجري كما ترى على نمط واحد لا تستطيع أن تميز في أسلوبه بين ما كان معناه مدبرا بالرأي وما كان معناه معلما بالوحي.
ولا بين ما يرسله إرسالا في حديثه مع أهله وأصحابه وما يحتفل به احتفالا في الجموع المحشودة والأيام المشهودة. فتبين بطلان ما اعتمده السائل من تفرقة بين القرآن والحديث على هذا النحو.
بل إننا لو ذهبنا إلى أبعد من ذلك وافترضنا جدلا صحة هذا التقسيم لما صلح أساسا يقوم عليه بنيان=
ونحن نرى الأسلوب القرآني فنراه ضربا وحده، ونرى الأسلوب النبوي، فنراه ضربا وحده لا يجري مع القرآن في ميدان إلا كما تجري محلقات الطير في جو السماء لا تستطيع إليها صعودا، ثم نرى أساليب الناس فنراها على اختلافها ضربا واحدا لا تعلو عن سطح الأرض،
فمنها ما يحبو حبوا، ومنها ما يشتد عدوا، ونسبة أقواها إلى القرآن كنسبة هذه "السيارات" الأرضية إلى تلك "السيارات" السماوية!
نعم، لقد تقرأ القطعة من الكلام النبوي فتطمع في اقتناصها ومجاراتها كما تطمع في اقتناص الطائر أو مجاراته؛ ولقد تقرأ الكلمة من الحكمة فيشتبه عليك أمرها: أمن كلمات النبوة هي أم من كلمات الصحابة أو التابعين؟
ذلك على ما عملت من امتياز الأسلوب النبوي بمزيد الفصاحة ونقاء الديباجة وإحكام السرد. ولكنه امتياز قد يدق على غير المنتهين في هذا الفن. وقد يقصر الذوق وحده عن إدراكه،
=الشبهة؛ لأن انقسام الكلام إلى المرسل على البديهة والمزور بالروية ما كان ليتفاوت به منهج الكلام -عند العرب الخلص- هذا التفاوت البعيد الذي يظن فيه أنه قول قائلين.
وإنما ظهر هذا التفاوت منذ انقرض أهل السليقة العربية ونبتت نابتة المولدين الذين أخذوا هذه اللغة من غير أمهاتهم، فكانت لغتهم التي بها يتكلمون غير اللغة التي بها يكتبون، وهكذا أمكن أن يكون لكل منهم أسلوبان متباينان،
ينزل بأحدهما إلى العامية الطبيعية ويصعد بالآخر إلى العربية المكسوبة، أما العربي القح فإن في عامة أمره ما كان يزيده التفكير والتقدير والروية إلا استيعابا لأطراف الحديث واستكمالا لمقاصده،
ولم يكن ذلك ليخرجه عن أسلوبه وطريقته ولغته الخاصة التي يألفها طبعه وتفيض بها سجيته وهي اللغة التي يحتذيها أهل الفن منا بعد محاولة ومعالجة.
ولئن كان فيهم قليل ممن يريد القول على غير سجيته ويتعمل له ما ليس من عادته في كلامه، لقد كان هذا التكلف غير مخرج له عن حدود مذهبه جملة. بل كان يترك في غضون حديثه ما يتم عن روحه ومشربه.
على أن الكلام بعد تلك المعاناة لم يكن ليزداد فصاحة وحسنا. بل كان ينزل في هذا الباب بقدر ما يحسب الحاسب أنه يصعد فيه.
ومن هنا كانت العرب تتمادح بالأمر يجيء طبعا لا تكلفا. ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- في شيء ما من المتكلفين، بل كان أشد الناس كراهية للتكلف في الكلام وغيره. وكان يقول: "هلك المتنطعون" رواه مسلم وأبو داود.
والتنطع في الكلام التعمق فيه والتفاصح. وانظر ذمه الرجل الهذلي حين خاصم في دية الجنين فقال: يا رسول الله كيف أغرم دية من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل؟ فمثل ذلك بطل، أي يهدر دمه.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إنما هذا من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع". رواه الشيخان وغيرهما.
وفي رواية: "أسجع كسجع الأعراب"؟ وفي أخرى: أسجع الجاهلية وكهانتها؟ فذم هذا النوع من السجع وهو ما كان كسجع الكهان مصنوعا غير مطبوع وكان المعنى فيه تابعا للفظ وليس اللفظ تابعا للمعنى.
فيلجأ إلى النقل يستعينه في تمييز بعض الحديث المرفوع من الحديث الموقوف أو المقطوع1.
أما الأسلوب القرآني فإنه يحمل طابعا لا يلتبس معه بغيره، ولا يجعل طامعا يطمع أن يحوم حول حماه؛ بل يدع الأعناق، تشرئب إليه ثم يردها ناكسة الأذقان على الصدور.
كل من يرى بعينين أو يسمع بأذنين إذا وضع القرآن بإزاء غير القرآن في كلفتي ميزان، ثم نظر بإحدى عينيه أو استمع بإحدى أذنيه إلى أسلوب القرآن، وبالأخرى إلى أسلوب الحديث النبوي وأساليب سائر الناس،
كان قد رزق حظ ما من الحاسة البيانية والذوق اللغوي فإنه لا محالة سيؤمن معنا بهذه الحقيقة الجلية، وهي أن أسلوب القرآن لا يدانيه شيء من هذه الأساليب كلها،
ونحسب أنه بعد الإيمان بهذه الحقيقة لن يسعه إلا الإيمان بتاليتها.. استدلالا بصنعة "ليس كمثلها شيء" على صانع
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الشورى: ١١