"وبعد" فإن سر الإيجاز في القرآن لا يقف عند الحد الذي أشرنا إليه، من اجتناب الحشو والفضول بتة، وانتقاء الألفاظ الجامعة المانعة التي هي -بطبيعتها اللغوية- أتم تحديدا للغرض، وأعظم اتساعا لمعانيه المناسبة، لا، بل إنه كثيرا ما يسلك في إيجازه
=باطل بالمشاهدة، إذ ترى العالم قد وجد غير فاسد واستمر غير فاسد، ونراه بجميع أجزائه وعلى اختلاف عناصره وأوضاعه -علوا وسفلا وخيرا وشرا- يؤدي وظيفة جسم واحد تتعاون أعضاؤه بوظائفها المختلفة على تحصيل غرض واحد.
وهذه الوحدة في نظام الأفعال دليل على وحدة الفاعل المنظم لها جل شأنه.
سبيلا أعز وأعجب.
فلقد راه يعمد -بعد حذف فضول الكلام وزوائده -إلى حذف شيء من أصوله وأركانه التي لا يتم الكلام في العادة بدونها، ولا يستقيم المعنى إلا بها،
ولقد يتناول بهذا الحذف كلمات وجملا كثيرة متلاحقة ومتفرقة في القطعة الواحدة، ثم تراه في الوقت نفسه يستثمر تلك البقية الباقية من اللفظ في تأدية المعنى كله بجلاء ووضوح،
وفي طلاوة وعذوبة، حتى يخيل إليك من سهولة مسلك1 المعنى في لفظه أن لفظه أوسع منه قليلا
فإذا ما طلبت سر ذلك رأيته قد أودع معنى الكلمات أو الجمل المطوية في كلمة هنا وحرف هناك، ثم أدار الأسلوب إدارة عجيبة وأمر عليها جندرة البيان بيد صناع، فأحكم بها خلقه وسواه.
ثم نفخ فيه من روحه، فإذا هو مصقول أملس، وإذا هو نير مشرق، لا تشعر النفس بما كان فيه من حذف وطي، ولا بما صار إليه من استغناء واكتفاء، إلا بعد تأمل وفحص دقيق
لا نكران أن العرب كانت تعرف شيئا من الحذف في كلامها، وترى ذلك من الفضيلة البيانية متى قامت الدلائل اللائحة على ذلك المحذوف، ولو كان من أجزاء الجملة ومقوماتها.
فإذا قيل للعربي: أين أخوك؟ قال: في الدار. وإذا قيل له: من في الدار؟ قال: أخي. ولو قال: أخي في الدار، لعد ذلك منه ضربا من اللغو والحشو.
لكن الشأو الذي بلغه القرآن في هذا الباب -كغيره من أبواب البلاغة- ليس في متناول الألسنة والأقلام، ولا في متناول الأماني والأحلام.
هذه كلمة تمثيلية بها أن نصور هذا الأثر البياني في مثال من الصناعات اليدوية. ذلك أنك ترى الخياط الماهر ينتفع باليسير من البز فيجعل منه حلة حسنة، مقدرة على الجسم تقديرا، بل إنها لسهولة مسلك الأعضا فيها تحسبها ضافية.
بينما غيره لا يحسن الانتفاع بهذا القدر ولا بأكثر منه، فيخرجه لباسا ضيقا حرجا. ذلك مثل صناعة الإيجاز القرآني بالقياس إلى كلام الناس.
مثال تطبيقي من سورة يونس والأنفال: خذ لذلك مثلا قوله تعالى:
{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّـهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ۖ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } يونس: ١١
الآية مسوقة في شأن منكري البعث الذين قال لهم النبي: "إني رسول الله إليكم، وإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". فقالوا متهكمين:
{ اللَّـهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} الأنفال: ٣٢
فلما لم يجبهم الله إلى اقتراحهم وأخر عنهم العذاب إلى ساعته المحدودة أطغاهم طول الأمن والدعة والعافية الحاضرة حتى نسوا ريب الدهر وأمنوا مكر الله، فجعلوا يستعجلون بالشر استعجالهم بالخير، ويقولون: متى هو؛ وما يحبسه لو كان آتيا؟!
أراد القرآن أن يقوم في جواب هذا الاستعجال: لو كانت سنة الله قد مضت بأن يعجل للناس الشر إذا استعجلوه، كتعجيله لهم الخير إذا استعجلوه، لعجله لهؤلاء.
ولكنه قد جرت سنته التي لا تتبدل بأن يمهل الظالمين ويؤخر حسابهم إلى أجل مسمى. وعلى وفق هذا النظام المسنون سيترك هؤلاء وشأنهم حتى يجيء وقتهم.
هذا هو الوضع الذي يوضع عليه الكلام في ألسنة الناس وفي طبيعة اللغة لتأدية المعنى الإجمالي الذي ترمي إليه الآية. فانظر ماذا جرى..؟
-
وكان الكلام في وضعه العادي مؤلفا من قضايا ثلاث: اثنتان منها بمثابة المقدمات. والثالثة بمنزلة النتيجة. فاقتصر القرآن على الأولى والأخيرة. أما الوسطى وهي الاستدراك -أو الاستثنائية كما يسميها علماء المنطق- فقد طواها طيا.
-
وكانت المقدمة الأولى في وضعها الساذج تتألف من أربعة أطراف: تعجيل من الله في الخير وفي الشر، واستعجال من الناس كذلك. ولكن الكلام ها هنا ليس فيه إلا تعجيل واحد من الله، واستعجال واحد من الناس.
-
وكانت المقابلة في الشبيه بحسب الظاهر إنما هي بين تعجيل وتعجيل، أو بين استعجال واستعجال، فأدير الكلام في الآية على وجه غريب، وجعلت المشابهة بين تعجيل واستعجال.
وبعد هذا التصرف كله هل ترى كلاما مبتورا أو طريق ملتويا يتعثر فيه الفهم؟ أم ترى مغزى الآية لائحا للعامة والخاصة، كالبدر ليس دونه سحاب؟
فارجع إلى طلب شيء من أسرار البيان، وقل: كيف جاء هذا الإشراق مع هذا الاختصار البليغ؟ نقول:
أما الأول" فإنه لم يدع تلك المقدمة المطوية إلا بعد أن رفع لها علمين من جانبيها يدلان على مكانها ويوحيان بها إلى النفس من وراء حجاب؛ فقد أقام عن يمينها كلمة "لو" الامتناعية التي صدر بها المقدمة الأولى،
ولما كانت الفاء وحده ليست نصا في المطلوب؛ لأنها كما تكون للتفريع تكون لمجرد العطف، فربما اتصل القارئ عاطفا بها على جزاء الشرط قبلها، من قبل أن يتبين له فساد المعنى لو عطف، لم يكتف بالفاء،
بل عززها بقوتين أخريين إذ حول صيغة النتيجة من الماضي إلى المضارع، ثم من الغيبة إلى التكلم؛ ليكون هذا الانقطاع اللفظي بينها وبين وما قبلها إيذانا بانقطاعها عنه معنى، وإذنا بالوقوف دونها، حتى لا تقع
النفس لحظة ما في أدنى اضطراب أو لبس، ذلك إلى ما في هذا التحويل من الافتنان في الأسلوب تجديدا لنشاط السامع، ومن إلقاء الرعب في القلوب بصدور نطق الوعيد والاستدراج على لسان الجبروت الملكي نفسه.
"أما الثاني" فإنه لما حذف طرفين من الأطراف الأربعة لم يحذفهما من جنس واحد، بل أبقى من كل زوجين واحدا هو نظير ما حذفه من صاحبه، لينبه بالمذكور على المحذوف.
فكانت كلمة "التعجيل" منبهة على نظيرتها في المشبه به، وكلمة "الاستعجال" منبهة على مقابلتها في المشبه.
"أما الثالث" فإنه نبه به على معنى هو غاية في اللطف، وهو سر الإمهال، وحكمة عدم التعجيل من الله. ذلك بأنه صور هذا التعجيل المفروض بصورة تشبه التماس الطالب وحرصه الشديد على إرضاء شهوته وسد حاجته الملحة التي تبعثه على استعجاله، ولا سيما إذا كان يطلب الخير لنفسه. كأنه قيل: إنه تعالى لو عجل لهم ذلك لكان مثله بهذا التعجيل كمثل هؤلاء المستعجلين، في استقزاز البواعث إياه. حاشا لله.
هذا إلى تصرفات عجيبة أخرى:
"منها" أن كلمة "لو" بحسب وضعها وطبيعة معناها تتطلب أن يليها فعل ماض. ولكن المطلوب ها هنا ليس هو نفي المضي فحسب، بل بيان أن هذا الفعل خلاف سنة الله التي لن تجد لها تبديلا.
فلو أدي المعنى على هذا الوضع لطال الكلام، ولقيل: "لو كان سنة الله المستمرة في خلقه أن يعجل ... إلخ":
فانظر كيف اختصر الكلام في لفظ واحد بإخراج الفعل في صورة المضارع الدال على التكرار والاستمرار، واكتفى بوضع "لو" فرينة على أن ما بعدها ماض في معناه. وهكذا أدى الغرضين جميعا في رفق ولين.
"ومنها" أنه كان مقتضى التطابق بين الشرط والجواب أن يوضع الجواب عدلا له فيقال: "لعجله"، ولكنه عدل إلى ما هو أفخم وأهول؛ إذ بين أنه لو عجل للناس الشر لعجل لهؤلاء منه نوعا خاصا هم له أهل، وهو العذاب المستأصل الذي تقضى به آجالهم.
"ومنها" أنه كان مقتضى الظاهر في تقرير النتيجة أن يقال: "فنذرهم" أو "فنذر هؤلاء" ولكنه قال:
{فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} يونس: ١١
تحصيلا لغرضين مهمين: أحدهما التنبيه على أن منشأ هذا الاستعجال منهم هو عدم إيمانهم بالبعث، والثاني التنبيه على أن قاعدة الإمهال من الله قاعدة عامة لهم ولأمثالهم.
"ومنها غير ذلك ... ": قل لنا بربك:
لو ظفرت في كلام البشر بواحدة من هذه التصرفات، ففي أي أسلوب غير أسلوب القرآن تظفر بهذه المجموعة أو بما يدانيها، في هذا القدر أو في ضعفيه من الألفاظ؟ مثال آخر في المعنى نفسه: قال الله تعالى:
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ﴿٥٠﴾ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنتُم بِهِ ۚ آلْآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ﴿٥١﴾) يونس:50 - 51
يقول الله تعالى: "نبئوني عن حالكم إن جاءكم العذاب بغتة في ليل أو نهار ماذا أنتم يؤمئذ صانعون؟ إنكم هنالك بين أمرين: فإما الإصرار على ما أنتم عليه الآن من تكذيب واستعجال؛ وإما الإيمان.
فأيهما تختارون؟ "أتستعجلون" بالعذاب يومئذ كما تستعجلون به اليوم؟ كلا، فإنكم مجرومون، وكيف يتشوق المجرم لرؤية العذاب الذي إن جاء فهو لا محالة مواقعه؟ ثم نبئوني أي نوع منه تستعجلون؟ فإنه ليس نوعا واحدا بل
هو ألوان وفنون. "أم" أنتم اليوم تكذبون ثم إذا وقع بعد حين آمنتم به؟ ألا إنه لن ينفعكم يومئذ إيمانكم بعد أن ماطلتم وسوفتم حتى ضيعتم الفرصة وفاتكم وقت التدارك. بل هناك يقال لكم تنديما وتحسيرا: الآن تؤمنون وقد كنتم به تكذبون وتستعجلون!!
هذا هو المعنى في ثوبه الطبيعي.
فانظر كم من كلمة وكم من جملة طويت في صدر الكلام وفي شقيه؟ وكيف أنها حين طويت لم يترك شيء منها إلا وقد جعل في اللفظ مصباح يكشف عنه ومفتاح يوصل إليه؟
فوضع استفهامين متقابلين في الكلام دل على أن هنالك استفهاما جامعا لهما مرددا بينهما، يقال فيه: ماذا تصنعون، وأي الطريقين تسلكون؟
والاستفهام عن الصنف المستعجل به من العذاب دل على استفهام تمهيدي قبله عن حصول أصل الاستعجال.
وكلمة "المجرمون" دلت على استحالة هذا الشق من التزديد. وكلمة "ثم" العاطفة دلت على المعطوف عليه المطوي بينها وبين الهمزة.
ولفظ الظرف "الآن" دل على عامله المقدر. وقس على ذلك سائر المحذوفات.. حتى إن مدة الاستفهام الداخلة على هذا الظرف قد دلت على طول مدة التسويف الذي منع من قبول إيمانهم؛ لأنهم عمروا ما يتذكر فيه من تذكر.
فمن ذا الذي يستطيع أن يجري في هذا المضمار شرفا أو شرفين ثم لا تضطرب أنفاسه، ولا تكبو به ركائب البيان وأفراسه؟
اللهم إن من دون ذلك لشقة بعيدة وسفرا غير قاصد. وإن في دون ذلك لحدا للإعجاز.